مُنْطَلَقَاتٌ فِكْرِيّة تَرْسِمُ الحِكَمة، وتَقرَأُ المُسْتَقْبَل الواقعيّ والافتراضيّ قِرَاءَة تَحليليّة في كَلمة جَلالة المَلكة رَانيا العَبدالله المُعظمة في قمة "WEB" بالبرتغال

 

مُنْطَلَقَاتٌ فِكْرِيّة تَرْسِمُ الحِكَمة، وتَقرَأُ المُسْتَقْبَل الواقعيّ والافتراضيّ

قِرَاءَة تَحليليّة في كَلمة جَلالة المَلكة رَانيا العَبدالله المُعظمة في قمة "WEB" بالبرتغال




ليس شائعًا أن تتداخل الصّور الفنّيّة، مع الجمل الإخبارية في كلمة ما، هي أشبه بمقالة لها مقدمة، وموضوع وخاتمة، وقد دمجت (الكلمة المقاليّة) -كما يمكن أن نسمّيها- بين البلاغة أسلوبًا، والمنطوق اللّفظي مكتوبًا.

فليس صدفة أنْ تتساوى بالتّقريب مدّة دقائق شرح جلالة الملكة عن الدّقائق الأربعة، بواقع (دقيقتين) تقريبًا، لكل منها، أكثر أو أقل، باعتمادها على أسلوب (المُحاوَرة الحِجاجيّ) الذي يُعنى بالتّسلسليّة، وطرح الأسئلة، والاستعانة بالاقتباسات، والبناء الفنّيّ التّصويريّ، واللغة التّفسيريّة/الحجاجيّة، المغلّفة بالبلاغة فضاء معرفيّا/ تكنولوجيّا، يمتلئ بالأرقام، والشّواهد، والمناسبات التي خدمت النّصّ، وساهمت في الحِجاج المقصود لفظا ومعنى، ويظهر ذلك جليًّا منذ مقدمة جلالتها حين قالت: "في بدايات شبكة الإنترنت، قال أحدهم: أعط شخصًا سمكة، وستُطعمه ليوم، علّمه كيف يستخدم الإنترنت ولن يزعجك لأسابيع. وقتها، أضحكني ذلك. لكنْ اليوم، تبدو (تلك المقولة) أشبه بالتّنبّؤ عمّا سندركه".

واعتمدت الكلمة على الأسئلة المحاورة الحجاجية، ومنها قول جلالتها: "أتساءل: إذا أخبرنا أحد بأنّ لدينا يومًا واحدًا إضافيًّا كلّ عام، هل سنستنتج أنّ أفضل شيء يمكننا القيام به من أجل أُسرنا، ومجتمعاتنا، وعالمنا... هو أن نأخذ تلك الأربعة والعشرين ساعة الإضافية، ونُعيد استثمارها أمام شاشاتنا؟!"، واعتمدت في (صياغة جملها) على [الأسلوب التّسلسليّ (أفقيًّا وعاموديًّا)]؛ حيث قسّمت عبارات فقراتها إلى ثلاث عبارات متسلسلة، ومتتابعة هي (العبارة المركزيّة)، و(عبارة الحكمة)، و(عبارة الصّورة الفنّيّة) [ويمكن قراءة تلك العبارات متتابعة ومتسلسلة من اليمين إلى اليسار أفقيًّا]، كما سلسلت عبارات فقراتها تسلسلا عاموديًّا، ومنها قول جلالتها: " يُقلقني أنّنا نستخف بقيمة أغلى عُملة في عالمنا: وقتنا"، فالحكمة (الوقت أغلى عملة)، والصورة (الوقت عملة) وهكذا.

ومثلما تمركزت مضامين الكلمة حول عدة تساؤلات تحاور القارئ من خلالها، وتمكّنه من الإجابة، فإنها لم تجب عن بعضها، ولكنها لم تغفل البسط التفسيريّ التحليليّ المفهوم والواضح والمتسلسل لما طرحته من مشكلات تواجهنا إن نحن لم نستثمر التكنولوجيا ووقتنا في قضائها بالشكل الصحيح.

ويمكن اختيار سّؤال مركزيّ للكلمة من بين تلك الأسئلة الكثيرة، وهو قول جلالتها: "إذا لم نتغلّب على انحيازاتنا الفطريّة، فكيف نأمل في إيجاد ذكاء اصطناعيّ غير متحيّز!"، كما تعدّدت أسئلة الكلمة الفرعيّة التي شكّلت مادة خصبة لها مكّنتها من إيصال أهدافها، ومن تلك الأسئلة: "إذا كان لدينا يوم إضافي في كلّ عام، فما الأفضل لقضائه"، و"كيف يمكن استرجاع الدّقائق الأربعة، واستثمارهن لصالحنا، وهل لون البشرة أو الدّيانة يؤثّران على الغرائز الإنسانيّة في المجتمع الدّوليّ".

وهكذا فلقد أدارت الكلمة جملها حول كلمة مفتاحية ومركزية هي (التّكنولوجيا)، ثم تترى في تبيان أن تمسّكنا بالتّكنولوجيا ليس مجرد عادة، بل نوع من الإدمان، وأن أول ما نفعله عندما نستيقظ، أن نتفحّص العناوين، كما أننا نتفحّص حساباتنا على مواقع التّواصل الاجتماعيّ قبل أن نذهب إلى النّوم، ونقضي ما لا يقل عن سبع ساعات يوميًّا على الإنترنت، وأنه يستمر استخدامنا في التّزايد، بحسب التّقارير؛ فارتفع المتوسط اليوميّ للوقت الذي نقضيه على الإنترنت بواقع أربع دقائق في اليوم، وأن جمع أربع دقائق في اليوم على مدار عام ستصل إلى يوم كامل، لكلّ شخص، وعندما نوزّعها على كلّ مستخدمي الإنترنت في العالم فسيصل المجموع إلى أكثر من خمسة مليارات يوم إضافيّ من استخدام الإنترنت في العام الواحد، وهو رقم يحيّر العقل!

وتريد أن تخبرنا جلالة الملكة عن تفكّرها بما كتبته الرّوائية (آني ديلارد) ذات مرة، من أن "الطريقة التي نقضي بها أيامنا هي بالتأكيد كيف نقضي حياتنا"، فتشرح لنا بواقعيّة وتواضع: "أنا لست خبيرة تكنولوجيا"، وتؤكّد على إيمانها بأنّ "هدف التكنولوجيا هو جعل حياتنا أفضل مما هي عليه.

أما بشأن قلق جلالتها!

فقد ازداد حتى مع تطوّر الواقع الافتراضيّ؛ لأنّنا نتجاهل احتياجاتنا الحقيقيّة في واقعنا الفعليّ؛ مما يسبب معاناة لصحّتنا النّفسيّة، فاقترحت أربع خطوات يمكن اتّخاذها؛ لاستثمار الوقت، وخصوصًا تلك الدّقائق الأربعة، وهي تباعًا: الاستثمار في حشد التّعاطف الجماعيّ، وبناء مفهوم جامع للحقيقة، واسترجاع سيادتنا الإنسانيّة، والاستثمار في الأشخاص الذين نحبهّم.

واستقت جلالتها من المعرفة والبيانات والأرقام ما يضفي على كلمتها سمتي (الوضوح والواقعيّة)، كما في قولها عن وصف (المفوضيّة السّامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين) لحدث "تخطّي عدد النّازحين قسريًّا عتبة الـ100 مليون شخص في العالم"، بالحدث المهم! فقالت: "إن الأرقام تبدو صعبة الاستيعاب، ولكنها ليست أرقامًا. هم أشخاص مثلنا. أشخاص يحملون آمالًا، وهمومًا، وأحلامًا، ولديهم عائلات يحبّونهم".

ومن المعرفة استثمار الذّكرى وقت حاجتها فاستثمرت جلالتها صورة من ذاكرتها يوم زارت مخيّمًا في بنغلادش، حيث هرب مئات الآلاف من (الرّوهينجا) المسلمين من إبادة جماعية في ميانمار، إبادة جماعية تفاقمت بسبب خطاب كراهية على الإنترنت، والصورة التي لم تنسها كانت لطفل صغير ونحيل، وحافي القدمين كان يجلس على الأرض بساقيه المفرودتين ومنحن إلى الأمام، وفي فمه مصّاصة بلاستيكية، كان يحاول أن يشرب الماء من الطّين!

ثم استهجنت جلالتها كيف أنّ ميزانيّة (المفوضيّة السّامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين) التي تهتم باللاجئين حول العالم حوالي 10 مليار دولار، في سنتها، في الوقت الّذي وصلت فيه إيرادات شركة (ميتا) للرّبع الأوّل فقط إلى حوالي 3 أضعاف ذلك المبلغ! قائلة: "هل هذا هو التّوزيع الصحيح للموارد؟!".

كما أكّدت جلالتها على (أنّنا في عالم مترابط) حيث لا يمكننا أن نحصّن أنفسنا من معاناة الآخرين؛ في ظلّ نماء مجتمعاتنا وقرانا وأحيائنا.. سواء أردنا ذلك أم لا، فنحن بحاجة إلى الاهتمام ببعضنا البعض إذا ما أردنا السّلام والاستقرار لأنفسنا ولغيرنا.

واستدعت جلالتها صورة من انقسام العالم الذي لا تبشّر بالاستقرار، وهي صور "استجابة العالم للأزمة في (أوكرانيا)، حيث هرب أكثر من 7,2 مليون شخص من العُنف، وقد أظهرت لنا الدّلالات اختلافًا في استقبالهم عن غيرهم من النّازحين! ومن الصعب تجاهل الاختلاف في (السخاء، واللهجة، والاهتمام) بين الترحيب باللاجئين الأوكرانيين وأولئك الهاربين من الدمار في دول مثل سوريا أو جنوب السودان أو ميانمار.

ثم أكّدت جلالتها على أنّ معالجة التّعصّب تجاه أمرٍ ما ليس من وظيفة (الخوارزميّة)؛ بل يعود لنا، ونحن الأقدر على علاجه، فإنْ لم نتمكّن من التّغلّب على انحيازاتنا الفطريّة، فكيف بنا نأمل في إيجاد ذكاء اصطناعيّ غير متحيّز! ولأجل ذلك دعت جلالتها إلى استثمار دقائق حياتنا بالتّعاطف، والحقائق، والسّيادة الذاتيّة، وفي وقت نقضيه جيدًا مع من نحبّ.

وحضر السّؤال مرة أخرى، في نهاية الكلمة، كما تكرر حضوره في بداية الكلمة ووسطها، وهذه المرة من زاوية (التّكنولوجيا) وكيف لها أن تُعزّز الاستثمار في الوقت؛ وأن تساعدنا في بناء حياة أفضل، مع أننا لا نريد منها أنْ تحدّ من رؤيتنا، وتحصر منظورنا، وتقوّض انفتاحنا على الاستفسار والحوار، فما وُجدت أجهزة التّكنولوجيا للإلهاء، ولكن من أجل التّوجيه.

وأخيرًا..

تريد جلالة الملكة منّا أن نعيش حياة هادفة بأقلّ ما يمكن من النّدم؛ لأنّه كلّما تقدّم النّاس في العمر، وأعادوا النّظر في حياتهم، فقليل منهم من سيخبرونك أنّهم تمنّوا لو أنّهم قضوا وقتًا أطول أمام شاشاتهم أو خلف مكاتبهم، ولكن الأكثريّة يتمنون لو أنّهم قضوا وقتًا أطول مع الأشخاص الّذين يَعْنَوْن لهم.. وليست التكنولوجيا التي تُغني حياتنا ولكن بعضنا البعض.

تعليقات