بحث كامل، يكتبه عماد الخطيب عن: حَكِي الصُّوْرَة الشِّعْرِيّة خِطَابًا لِسَانِيًّا "دِرَاسَة تَطبِيقِيّة في قَصِيدَة المُومِس العَمَيْاء لبَدر شَاكِر السّيّاب"

حَكِي الصُّوْرَة الشِّعْرِيّة خِطَابًا لِسَانِيًّا

"دِرَاسَة تَطبِيقِيّة في قَصِيدَة المُومِس العَمَيْاء لبَدر شَاكِر السّيّاب"


الباحث

عماد علي سليم الخطيب

أستاذ الأدب الحديث ونقده المشارك – جامعة العلوم الإسلامية العالمية - الأردن

المُلخص باللّغة العربيّة:

         لقد امتزجت حكايات بدر شاكر السّيّاب الشّعريّة عن (المرأة) مع تجاربه الذّاتيّة، ومنها حكايات (المُومِس العَمياء) التي حكاها عام 1945م، بعدما تحطّمت عنده صورة (المرأة المثال) بزواج حبيبته، وتزامن ذلك مع قسوة الحياة عليه! فاستثمر قدرته التّشكيليّة للدّراما في الشّعر: أسلوبًا محكيًّا مصوّرًا شعرًا.. ممّا يعني أنّه قد تحكي (الصّورة الشّعريّة) ما لا تحَكِيه الصُّورة السّرديّة، فدرس الباحث أنماطًا من الحَكِي في الصُّورة الشّعريّة المتشكّلة للمُومس العمياء دراميًّا، مستعينًا بأدوات المنهج اللّسانيّ التي تساهم في فهم الخِطاب الشّعريّ وتصل بنا إلى النّتائج، عادًّا (حكي الصّورة الشّعريّة) من أدوات التّشكيل الدّراميّ المعبّرة، والجاذبة بما تحمله من سمات أهمها الاختصار، والعُمق.

الكلمات الدّالة: السّيّاب، الحكي، الصّورة، الشّعر، النّقد، الدّراما، العربيّ.


Narration in Poetic Image form a Linguistic Discourse

"An applied study of the poem “The Blind Prostitute" by Badr Shakir al-Sayyab"

Emad Ali Salim Alkhateeb

Assistant Professor in Modern Literature and Criticism

The World Islamic Sciences & Education University - Jordan

Abstract:

Badr Shakir al-Sayyab’s poetic tales about (the woman) were mixed with his own experiences, including the tales of the (blind prostitute) he composed in 1945 AD, after his image of (the ideal woman) was shattered, and this coincided with the cruelty of life on him! So, he invested the expressive ability of drama in poetry: a spoken style illustrated by poetry.. which means that the (poetic image) may tell what the narrative image does not. The poet studied patterns of narration in the poetic image of the "blind prostitute" dramatically, using the tools of the linguistic method that contribute to understanding poetic discourse and lead us to the results, Typically, (telling the poetic picture) is one of the weapons of expressive dramatic construction, and it draws attention with its characteristics, the most significant of which are brevity and depth.

Keywords: Al-Sayyab, storytelling, image, poetry, criticism, drama, Arabic.

 

 

 


-1-

بدر شاكر السياب شاعر من العراق......................

 

        


-2-

         قد تحَكِي الصُّورة الشّعريّة ما لا تحَكِيه العبارة النّثريّة السّرديّة، فيكون لحَكِي الصّورة الشّعريّة بريقه الجذّاب، وإنّ أكثر ما يجذبك في (حكي الصّورة الشّعريّة) ما قد يتشكّل من دراما قصصيّة حولها.

         ويتشابه هنا عمل الشّاعر، بعمل السّارد، فيشكّل الشّاعر شخصيّته ويختبئ خلفها مدافعًا عن مواقفها التي تشبه مواقفه تجاه الحياة والزّمن والنّاس، ولا يظهر موقفه المتعاطف إلا من خلال ما تخفيه بعض استدعاءاته وما يمكن للباحث أن يستنتجه منها من حكي يختبئ خلفها، فلا يُظهر الشّاعر نفسه فوق مسرح الأحداث في النّصّ الدّراميّ المتشّكل بالصّورة الشّعريّة، إلا بما يتقنه من لَعِب في نقل المَشهد أو اختصاره أو غير ذلك، وما قد تحكيه استدعاءاته.

         ويتساوى نقل الأحداث الدّراميّة في الشّعر والنّثر، وتختلف الآلية، فمن وصف وسرد عند الناثر، إلى صورة شعريّة عند الشّاعر، ولكن الباحث لا ينظر في نقل الأحداث فقط، بل في الأحاسيس المنقولة معها وما يهدف إلى نقله المبدع من أحاسيس يشاركها مع المتلقّي، وهذا سبب نقله توظيف مصطلح (الحَكِي(Narration)) من السّرد إلى الشّعر، وربما لا يتشابه ما ينقله (الشّاعر) من حكي، بما ينقله (السّارد) من أوصاف أو سرد، فألصق الباحث مصطلح (الحَكي) إلى مصطلح (الصّورة الشّعريّة) ليصبح مراده (الحَكِي في الصّورة الشّعريّة) ثم حدّد مكانها في الخِطاب الشّعريّ المشكل للدراما القصصيّة، مستثمرًا أدوات (اللِّسانيّة) منهجًا، فاستقام الباحث على دراسة أنماط مِنَ الحَكِي في الصُّورة الشّعريّة المتشكّلة دراميًّا، دراسة لسانيّة فيما صوره السّيّاب من شخصيّة (المومس العمياء) وهي (الشّخصيّة القناع) التي يختبئ الشّاعر وراءها ليعبّر عن موقف يريده، أو ليحاكم نقائض العصر الحديث من خلالها (1)، وقد قدّمها الشّاعر تقديمًا مسرحيًّا وأتقن الاختباء خلفها، وباح بما يريده دون رقيب، وحكى ما لا يمكنه أن يحكيه مباشرة، ومثّلت بذلك (صورة المومس العمياء) صورة كلّيّة في القصيدة، كما مثّلت الصّور الأخرى التي تحيطها صورًا جزئية غرضها اكتمال دائرة المعنى الذي يريد الشّاعر وصوله إلينا، وإقناعنا به. كما حَمَلَت القصيدة العنوان نفسه(2).

         والشّاعر إذ يصوّر دراما شخصيّته بأسلوب السّارد، فإنّه ينقل أحاسيسه، وتجربته إلى المتلقّي بما يشكّله من تلك الصّور الشّعريّة، وكما أنّ من الواجب على المبدع أن يراعي الإحساس اللّغويّ والفنيّ عند المتلقيّ، وأن يساعده في فهم ما يصوّره أو تحكيه صوره، فعلى المتلقّي أن يشارك المبدع حواراته وأحاسيسه تجاه شخوصه، وأن يعيش معه المناسبات الّتي شكّلت صورة خِطابه الشّعريّ، وأن يتفاعل مع حَكِي صوره.

         ويفترض الباحث أنّ الحَكِي الذي تقدّمه الصُّورة الشّعريّة المتشكّلة دراميًّا، يتميّز برهَافة الحسّ أكثر من الحَكِي الذي ينقله السّارد عن شخصيّاته، وأنّ ما تقدّمه صورة الخطاب الشّعري قد لا يصلح أن تقدّمه حكايات السّرد؛ لأن القصيدة تقع في مكان ما بين الكاتب والقارئ (3).

         وتشترط تطبيقات الحَكِي وجود مرسِل ومُستقبل، ويمكن للباحث أن يعرّف اصطلاحه (حَكِي الصّورة الشّعريّة) بأنّه "كلّ تخيُّل تُشكّله الصّورة الشّعريّة، ويُنتِجُ أحداثًا تنتمي إلى شخصيّة دراميّة يلتفت إليها المُرسل باهتمام، ويريد لمتلقيه أن يهتمّ بها".

         ويمكن تتبّع (حَكِي الصُّورة الشّعريّة) من خلال الكشف عمّا تحمله ألفاظ أو عبارات أو جمل الصّورة في الخطاب الشّعريّ من معان، وربما نحتاج للكشف عن معان تحملها إحالات تحيط بألفاظ الصورة، واستدعاها الشّاعر لغاية مقصودة، آخذين بعين الاعتبار اهتمام الدّراســـــات اللّغويـّـــة بدراســـــة المقطـــــع الّذي يمكـن أن نقيسـه سـيكولوجيًّا بمساعدة حدسنا تارة، والكشف عن قصد الشّاعر من استدعائه له(4) تمامًا كما يتتبّع المُشاهد كاميرا مُخرجٍ في أيّ دراما، فقد تحكي صورة الكاميرا ما لا يمكن التّعبير عنه لفظًا!

         وقد تحَكِي صُور المُخرج ما لا تحكيه شخوصه، وقد تنقل صُور ذاك المُخرج أحاسيس لا تنقلها عبارات الشّخوص، وهذا يشبه – إلى حدّ ما – نقل الشّاعر بالحكي ومن خلال تشكيلات الصّورة الشّعريّة لأحاسيسه، فعدسة كاميرا المخرج هي ذاتها عدسة الشّاعر الأكثر معرفة بما يريده من حكي، وما يريد له أن يصل إلى المتلقّي.

         وسيطبّق الباحث مصطلح (حَكِي الصّورة) على أنماط من الحكي داخل الخطاب الشّعريّ الذي قدّم به السّيّاب شخصيّته (المُومِس العَمياء) الّتي وإن ابتكر الشّاعر بعض أحداثها فإنّه عايش شيئا منها، كما يظن الباحث، وهذا ما سيكشفه التّطبيق النّقديّ مستعينًا بمصطلحات المنهج اللّسانيّ في تحليل النّصّ، الذي هو الميدان العام لمجموع المنطوقات، والممارسة الأكثر أمانًا ولها قواعدها الأكثر وضوحًا (5)، خطابًا اصطلاحيًّا يدرس أبعاد الكلام، ويتعدّى ذلك إلى قراءة فاحصة للتّعبيرات والمعاني والإحالات متجاوزًا الزّمن الذي قيلت فيه القصيدة (6).

         ويرجع ظهور مصطلح الخطاب في الدّراسات اللّسانيّة إلى أعمال (بنفست) ومدرسة تحليل الخطاب الفرنسيّة، وأعمال (كلود ليفي ستروس)، ثم نما مع أعمال (فوكو) الذي جعل المنطوقات وحدته الأوليّة الأصغر من بين مكوّناته التي سيقف عندها الباحث، ويدور في فلكها؛ لتحليل [الحَكِي في الصُّورة الشّعريّة المتشكّلة دراميًّا] (7).

         ويفترض الباحث وجود أنماط من الحَكِي في الخطاب الشّعريّ، وأن أدوات منهج التّحليل اللّسانيّ ستساعدنا في استكشاف مكنوناتها، وتتبّع دالات ما شكّله الشّاعر من صور شعريّة، وما ترسله من معنى، واستكشاف ما يحسّ به الشّاعر تجاه شخصيّة (المومس العمياء)؛ لأنّ الشّاعر يرعى لغته، ويرعى ما تُشَكّله صوره الشّعريّة من معان، وإنّ أكثر ما يخدم الباحث لمعرفة ما يفكّر به الشّاعر هو دراسة خطاب صوره الشّعريّة التي من خلالها يبثّ أفكاره، وتأويل ما يستجيب له من رموز أو إشارات أو دالات (8).

         وسيستفيد الباحث من أدوات المنهج اللّسانيّ لدراسة (أنماط الحَكِي في الصُّورة الشّعريّة المتشكّلة دراميًّا)، من خلال دراسة ما في الدّوال الّتي تنتظم النّص من اتّساق، أو استبدال، أو حذف، أو وصل، ودراسة أنماط ثلاثة من الحَكِي الخطابيّ المتشكّل، إلى جانب دراسة الحكي المتشكّل بالصُّورة الشّعريّة الدّراميّة في قصيدة المُومِس العمياء، وهي:

1-  نمط الحَكِي قبل التّعبير عن صورة المومس.

2-  نمط الحَكِي خلال التّعبير عن صورة المومس.

3-  نمط الحَكِي بعد التّعبير عن صورة المومس.

         وعند تتبع الباحث لحَكِي الخِطاب الدّرامي التّصويريّ للمُومِس العمياء، سيظهر أثر (دالّة الحَكِي) في نماذج عن كلّ نمط من أنماط الحكي الثلاثة السّابقة، وسيستعين الباحث بدراسة دالّة الاتّساق التي تَبحَث عن العلاقة بين الصُّورة الشّعريّة، ومكوّناتها؛ وتماسك الخِطاب الشّعريّ، وترابط عناصره، وهو مفهوم لسانيّ يُدلّل على العلاقة القائمة داخله، كما ستشمل دراسة الاتّساق عددًا من الأدوات مثل الإحالات، أو الإشارات أو الحذف أو الاستبدال أو الوصل (9).

         وسيحلّل الباحث أدوات اتّساق النّصّ بوصفها دالات لسانيّة مشكّلة لمادة الصّورة الشّعريّة، ويكون المقصود من تحليل اتّساق النّصّ الإحاطة بالنّصّ من حيث التّسلسليّة والتّماسكيّة والنّسيجيّة (10).

-3-

         يمكن تتبّع (حَكِي الصُّورة الشّعريّة في المومس العمياء قبل التّعبير عن المشهد) من خلال معرفة الإحالات التّعبيريّة الّتي سبقت تصوير الشّاعر لمشهد المومس العمياء؛ حيث يتكّئ الشّاعر على (الوسيلة الإحاليّة) التي تحكي ما يريده، وهي تقنية لسانيّة تسمّى (الاستباق)، ويسمّى بناء الشّاعر لها بالبناء الاستباقيّ، وبها يحيلنا الشّاعر قبل التّعبير عن مشهده الدّراميّ للمومس بالصّورة الشّعريّة إلى حدث آخر (11).

         وفي الإحالة علاقة قائمة بين الأسماء والمسمّيات (12)، ولها أنواع منها الإحالة بالضّمائر أو بأسماء الإشارة أو بصيغ المقارنة، أو بأداة التّعريف أو بالمقارنة أو بالأسطورة التي هي وسيلة اتّساق خِطابيّ نصِّيّ تربط أجزاء النّصّ وتماسكها، كونها أداة لسانيّة ذات مستوى دلاليّ، والبحث يكون عن مدلولها داخل الخِطاب النَّصِّيّ، أو خارجه، وتشترط التّفاعل مع النّصّ، واستنباط العلاقات التّطابقيّة الإشاريّة القابلة للتّأويل بين ألفاظ الصّورة (13).

           والأسطورة هي الجزء المحكيّ على شكل قصّة مصوّرة، والمصاحب لكلّ ما له علاقة بالطّقوس والآلهة وخوارق العادات والمعارف الشّعبيّة المتجذّرة في التّاريخ الإنسانيّ تلك التي تصوّر الخير والشّر، وعبر عن فكرة ما وتنتقل من جيل إلى جيل بالرّواية (14).

         وتقسم الإحالة إلى نصيّة يمكن استنتاج حكيها من دالات داخل الخِطاب الشّعريّ، وأخرى مقاميّة نستنتج حكيها من معرفتنا المرجعية خارج النّصّ، وتقسّم الإحالة النَّصِّية من داخل النّصّ إلى إحالة قبليّة تعود إلى إشارة سابقة عليها، وإحالة بعديّة تعود إلى إشارة تابعة لها (15).

         ونقف مع نمط الإحالة الأسطوريّة (16)، يقول السّيّاب في مطلع قصيدته:

وتفتحت كأزاهر الدّفلى، مصابيح الطّريق،

كعُيون ميدوزا، تَحَجّر كلّ قلب بالضّغينة

         فيحيلنا الشّاعر إلى أسطورة "ميدوزا" ويثري ذلك بإحالات قبليّة وبعديّة؛ ليحكي لنا ما يريدنا أن نفهمه عن علاقة "ميدوزا" بصورة المومس العمياء، وتلك الإحالات هي: "عُيُون"، و"تَحَجَّر"، و"قَلْب" و"الضَّغِيْنَة"، ولا يجوز أن نقف عند إحالة "ميدوزا" كونها رمزًا للتّحجّر والقسوة، دون الاعتناء بالإحالات الأخرى، وكشف علاقتها بها، وبالتالي استنتاج علاقتها بالمومس العمياء، فتتوسّع العلاقات بين الكلمات، وتنفتح حدود التّخيّلات مع قراءتنا لصورة تفتّح مصابيح الطّريق الذي شبَّهه الشّاعر بتفتُّح أزهار الدّفلى مُرّة المذاق والسّامّة، وشبّهه بعيون "ميدوزا" القاسية التي تُحجِّر كلّ مَن ينظر إليها، فهل ثمة علاقة بين "ميدوزا" وصورة البؤس والشّقاء التي تنتظر تلك المُومِس العمياء في تلك الليلة.

         إنّها بداية القصيدة، وإنّها بداية استعطاف الشّاعر لنا، وبإحالات من داخل النّصّ، وأخرى من خارجه نسمّيها (الإحالة المقاميّة) التي تحَكِي لنا ما لا يقلّ أهمية عمّا تحكيه الإحالة النَّصِّية من داخل النّصّ، لنتخيّل مشهد ليلة المومس العمياء الأكثر قبحًا ومرارة، فتتشكّل (الوحدة الدّلاليّة للنّصّ) من رغبة الشّاعر في إقناعنا ولكن دون تدخّل مباشر منه، تمامًا كما لا يتدخّل السّارد في حَكِي شخصيّاته، وهو ما يلخّصه المشهد التّالي من قول الشّاعر [أنّ نذيرًا يبشّر بحريق بابل، وأنّ الليل غابة والذّئاب في كلّ مكان، والمدينة عمياء، والليل زاد لها عَمَاها]، وممّا يمكّننا من التّعرّف إلى حَكِي الصُّورة الشّعريّة قبل التّعبير عن مشهد (صورة المومس) الكلّيّة؛ والوقوف عند الإحالات الأسطوريّة، وهي تختصر ما يريد أن يحكيه الشّاعر من أن الصّورة تحكي بالإحالة عن أسطورة حضارة بابل الزّاهرة، وتنذر أهلها بالحريق الهائل الذي سوف يقضي على كلّ شيء، في صورة معادلة لما سيحصل في مدينة بغداد الزّاهرة إن بقي حال المفسدين فيها على تلك الصّورة.

ومن الإحالات الأسطوريّة، قول الشّاعر:

أحفاد أوديب الضّرير ووارثوه المُبصرُون

         فتُخفي إحالته إلى أسطورة (أوديب) حكيًا..

         ومعها إحالات ترتبط بها وتعمّق الصّورة الجزئية التي تخدم المعنى في الصّورة الكلّيّة، كما في إحالات لفظة "الضّرير" التي هي صفة "أوديب"، وأحفاد "أوديب" الّذين وصفتهم بالمُبصرين، ثم أحالنا الشّاعر إلى أسطورة ثالثة، قبل أن يخبرنا عن صورة المومس العمياء، فقال:

جوكست أرملة كأمس

         تلكما إحالتان لأسطورتين متتابعتين هما "أوديب"، و"جوكست" وتختصران حكيًا لم يحكه الشّاعر تفصيلا؛ ونراهما سابقتين على تصوير حكي الشّاعر عن المومس، وتملك الأسطورة خاصّيّة الإحالة المقاميّة (من خارج النّصّ)، ولم يكتف السّيّاب بذلك بل أحالنا بالتّتابع إلى إشارات (من داخل النّصّ) مصورًا أوديب بـالضّرير، وجوكست بـالأرملة، ثم أحالنا إلى ما يربط بين الحَدَثين في زمن القصّة الأسطوريّة الأزليّ القديم كما ترويه الأسطورة: فقد تزوّج (أوديب) من أمّه (جوكست)، ثم عاقب نفسه ففقأ عينيه، ثم هام تائهًا، وصارت أمّه أرملة؛ لأنّ زوجها قد انتحر، وحياتها مع (أوديب) قد حُكِم عليها بالفشل بعد كشف العرّاف لهما لحُرمة العلاقة، وأنّه ابنها، فأيّ بؤس، وأيّ شقاء كان يحسّه أوديب، وكانت تحسّه جوكست! إنّه المعادل للشّقاء نفسه الذي تحسّه المُومِس العمياء وهي الشّخصيّة الدّراميّة الّتي يمهّد لنا الشّاعر لاستقبالها.

         أمّا العلاقة بين إشارتَي (الأحفاد) و(الوارثين) فتحتاج إلى التّأويل، ويمكن ربط دالة (الأحفاد) بدالة (الضّرير)، وربط دالة (الوارثين) بدالة (المُبصرين)، فمَن هو المُبصر الذي تآمر على أوديب؟ ومَن هم الأحفاد الذين ما زالوا يشربون من الكأس نفسه الذي شرب منه أوديب؟ إنّ الشّاعر يشير إلى العلاقة الأبدية بين المساكين والطّغاة الفاسدين فوق الأرض! وأمّا (جوكست) فهي أرملة ضعيفة، ومُسيّرة، ولا علاقة لها بما جرى حولها، ولم تتّخذ قرارًا، وهو بذاك يمهّدنا كي نستقبل صورة (المُومس) الشّبيهة بها.

         ونقف الآن مع حكي (الموت) المتشكّل بالصّورة الشّعريّة في القصيدة، وإحالاته كثيرة، ويمكن عدّه (صورة مركزية) في القصيدة يعتمد عليها الشّاعر، وقد أظهر الشّاعر اهتمامه بتشكيله منذ مطلع القصيدة في الإحالات التي مرت بنا سابقًا، ويمكن إضافة إحالاته لـ(قابيل)،

حيث حكى عن أول جريمة موت في التاريخ البشري، يوم قَتَل قابيل أخاه هابيل دون ذنب وفي صورة معادِلة لقتل المجتمع للمومس، ومحاولة إخفاء جريمتهم خلف مشروعيّة المتعة كما سوّغ قابيل لنفسه قتل أخيه، موجدًا مسوّغات للقتل، ومخفيًا دم الجريمة بالأزاهر وابتسامات النّساء، في صورة بشعة ابتكرها الشّاعر؛ لتعادل صورة قتل الناس للمومس كلّ يوم بمسوّغات هم اخترعوها، وجعلوها قانونًا يدافعون به عن شهوتهم وفسادهم!

         وقد انتشرت حكايات الموت في صور القصيدة كلّها؛ فصوّر الشّاعر إحساس المُومِس بالموت في كلّ مكان، واستُحْضِرَت صورة الموت ذات العلاقة الدّلاليّة المباشرة بالمُومِس (سبع) مرّات، وكأنّ العلاقة الدّلاليّة بين المُومِس والموت علاقة (تبادليّة)؛ فأينما تجد المُومِس تجد الموت! ومن الملاحظ أنّ القصيدة بدأت بتصوير الموت، واختُتمت بتصويره كذلك!

وهكذا فللموت حكاية مع المومس، ويمكن تتبّعها كما يلي:

البداية من تصوير المُومِس العمياء وهي تنتظر زبونها وما من أحد يطرق بابها، وصوّر زبائن تلك المكان بالموتى، فيقول:

أصداء موتى يهمسون

وكما شبّه الزّبائن بالموتى، صورها بالميّتة، وهي تئن وتشتكي للرّيح؛ إذ لا زبون موجود، فقال:

إلى الرّيح تئن كالموتى

ثم أكّد الشّاعر على صورة إحساس المومس بالموت، مع أنّها حيّة، قائلا:

للموت جوعًا، بعد موتي - ميتة الأحياء - عارًا

ثم صوّر الشّاعر أمنية المُومِس أن تكون للموتى – تعني الرّجال الّذين يحضرون للمبغى ولا يدقّون بابها- عيون؛ لترى شقاءها بعد أن صارت عمياء، وهو قوله:

يا ليت للموتى عيونًا من هباء في الهواء

ترى شقائي

وصوّر الأمل الذي تنتظره من زبون بالحبل الذي سيأخذ بيدها إلى الحياة من جديد، فقال:

حبل الحياة .....،

حبلا به تتعلّقين على الحياة...

وصوّر حكاية لها مع بنيها؛ فهم من ردّ عنها موتها، وقد ماتوا، وهي صورة عميقة في البؤس والشّقاء؛ فعملها هو الذي حكم على بنيها بعدم الوجود، ولم يموتوا صراحة، بل لم يخلقوا أساسًا. قال الشّاعر:

كم ردّ موتك عنك موت بنيك

         وختم السّيّاب قصيدته، بحكمة الله – تعالى- في وجود المُومِس، مُستفهمًا عن سبب وجودها، وسبب موتها، وهذا قوله في ختام القصيدة:

ما كان حكمه أن تجيء إلى الوجود وأن تموت؟

وأحال الشّاعر إلى موت غير ذاك الذي تحسّه المومس، فصوّر الضّجيج يموت من حولها في استعارة لموت كلّ ما حولها حتى الضّجيج الذي قد يُنبئ لها ببصيص أمل بوجود زبون، ولكنّه لم يأت، فقال:

مات الضّجيج

وثمّة موت آخر، فقد أمات الشّاعر (أقفال الحديد)، وحكى لنا عن صورة المومس، وهي تتنصّت لأقفال الحديد كيف ماتت أي أغلق الباب، في صورة تتكرّر معها كلّ ليلة، وفي دراما تعبير لسأم وبؤس يحصل معها كلّ ليلة. قال الشّاعر: 

وأنتِ، بعد، على انتظارك

تتنصّتين، فتسمعين

رنين أقفال الحديد يموت، في سأم، صداه:

الباب أوصد

ذاك ليل مُرّ...

فانتظري سواه

-4-

         تستدعي الصُّورة الشّعريّة حكاية أسطورة ما إن أراد الشّاعر أن يحكي لنا حكاية ما قبل التّعبير عن المشهد الرّئيس، والقصيدة وإن كانت أسطورية الإحالة، ولكنها أصيلة في تصوّرها، وإنسانيّة في توجّهها، وهذا الذي ينقلنا إلى النّمط الثّاني من أنماط الحَكِي بالصُّورة وهو الحَكِي خلال التّعبير عن المشهد المصوّر.

         وفي النّمط الثّاني يدمج الشّاعر بين حكايتين: حكاية المومس، وحكاية تجربة الشّاعر التي تعبّر عنها الصُّورة، فمثلا إذا عبّرت الأسطورة عمّا يدور في ذهن الشّاعر وصوّره لنا، فإنّ حال الشّاعر وهو يصوّر المُومِس العمياء حال متداخلة؛ فهو من جهة يدينها على فعلتها، ومن جهة هو لا يريد أن يظلمها ويقسو عليها، فتتحول قصيدة المومس العمياء إلى قضية مجتمعيّة، ذات بعدين: بعد لاشعوريّ وجدانيّ خاص بقضيّة كلّ امرأة مُهملة، وبعد آخر شعوريّ يرتبط بالموت وما يحسّ به الشّاعر من قربه منه.

          فالمُومِس العمياء موضوع حسّاس، ويمكن أن نستكشف أهمية تعبيرات الشّاعر وصوره عنها من خلال (ظاهرة الاستبدال) الّذي هو صورة من صور التّماسك النَّصِّي الّتي تتمّ في المستوى النّحوي والمعجميّ بين كلمات، أو عبارات لا تكون إلا داخل الخِطاب النَّصِّي، فيتم من خلال تعويض عنصر في النّصّ بعنصر آخر يكون لاحقًا للجملة المستبدل منها (17).

         ويمكن ربط الاستبدال بحَكِي الصُّورة من خلال التّعبير؛ لأنّنا نبحث عن علاقة بين المُحيل والمُحال إليه، ويوجد ذلك في الغالب علاقة تطابق، ويحمل كلا العنصرين المستبدلين المعنى نفسه تقريبًا، مع اختلافٍ في اللفظ، وهو من الركائز المهمّة في تطبيق المنهج اللّساني على النّصّ.

         ونرى حَكِي الصُّورة عند السّيّاب من خلال التّعبير عن المشهد، في تصويره للمشاهد المجتمعيّة القابلة للاتّساق الاستبداليّ، ذاك الذي يُعوَّض خلاله بين عنصر وآخر، بعلاقة تطابق تجمع الصُّورة (المُحيل)، والحكي (المُحال إليه). قال الشّاعر مصوّرًا سبب كون المومس على تلك الشّاكلة:

ومن الملوم وتلك أقدار كتبن على الجبين؟

حتمٌ عليها أن تعيش بعِرضها، وعلى سواها

من هؤلاء البائسات وشاء رب العالمين

ألا يكون سوى أبيها - بين آلاف - أباها

وقضى عليه بأن يجوع

والقمح ينضج في الحقول من الصّباح إلى المساء

... يقتلوه ... (وتشرئب إلى السّماء

كالمستغيثة وهي تبكي في الظّلام بلا دموع)

والله - عزّ الله - شاء

أن تقذف المدن البعيدة والبحار إلى العراق

آلاف آلاف الجنود ليستبيحوا، في زقاق

دون الأزقة أجمعين

ذاك اسم جارتها الجديد، فليتها كانت تراها

هل تستحق اسمًا كهذا: ياسمين وياسمين؟

ثم يحكي لنا الشّاعر عن اسمها أنّها:

.... فقدته واستترت بآخر مستعار

هي - منذ أن عميت - "صباح"...

فأيّ سخرية مريره!

         إذن، يحكي لنا الشّاعر قصة فتاة اسمها تغير اسمها غير مرّة فمن (سليمة) إلى (ياسمين) وإلى (صباح) وهي ابنة فلاح عراقيّ قُتِلَ لمّا اتهموه بالسَّرقة؛ وغادرت ابنته القرية هربًا من عار أبيها الكاذب! فابتليت بعار أكثر بشاعة؛ لما استباح الفاسدون من الجنود والمحتلّين وغيرهم جسدها.

         وعرفنا من خلال حَكِي الصّور السّابقة أنّ الابنة صارت زوجة وربّة أسرة، وأنّها مارست البغاء طلبًا للعَيش، ولمّا هَرِمَت وأصابها العَمَى لم يعد أحدٌ يرغب فيها، وصارت تنتظر بالمبغى، وتدفع أجرة المصباح الذي تنير به غرفتها، وهي لا تراه!

         وتتمّة لحَكِي الصُّورة المختبئ وراءها الشّاعر الذي يريد الإفصاح عن ضنك حال أهل العراق وناسه؛ فيلجؤون إلى بيع شرفهم وأعراضهم وامتهان كراماتهم، مع أن هناك أعداء يسرقون خير العراق كلّه! وهذا ما نفهمه من استبدال مشهد المومس بمشهد يتعالق في نمط اتّساقيّ معه وهو مشهد اللاعدالة كما يصوّره الشّاعر في قوله:

ويح العراق! أكان عدلا فيه أنّك تدفعين

سهاد مقتلك الضّريرة

ثمنا لملء يديك زيتا من منابعه الغزيرة؟

كي يثمر المصباح بالنّور الذي لا تبصرين؟

         ونستنتج أن حَكِي الصُّورة الشّعريّة خلال التّعبير عن المُومِس العمياء قد صنع رأيًّا تبادليًّا بين طرفين مثّلا اتّساقًا عبر مستويات حكي خمسة هي:

1-  مستوى حَكِي الشّاعر عن المجتمع.

2-  مستوى حَكِي الشّاعر عن المُومِس.

3-  مستوى حَكِي المُومِس عن المجتمع.

4-  مستوى حَكِي المُومِس عن نفسها.

5-  مستوى حَكِي المجتمع عن المُومِس.

         ولقد بدأت القصيدة بمستوى حَكِي الشّاعر عن المجتمع، مصوّرًا المدينة، فقال:

عمياء كالخفاش في وضح النّهار، هي المدينة،

والليل زاد لها عَمَاها

وحديثه عن المدينة العمياء هو حديث تبادليّ يعادل موضوعيًّا حديثه عن المومس العمياء.

ثم صوّر مشهدًا من مشاهد المبغى، فقال:

وانسلّت الأضواء من باب تثاءب كالجحيم

ومن حكي الصّور حكاية الشّاعر عن الأب المسكين الّذي لا يعلم ما ستؤول له حال ابنته الصّغيرة، عندما تكبر، في صورة درامية للآلاف من الفاسدين الذين سرقوا ماء الحياء من فم ابنته التي كان يخجل هو نفسه من تقبيله!:

لأب يقبّل وجه طفلته النّدي أو الجبين

أو ساعدين كفرختين من الحمائم في النّقاء

ما كان يعلم أنّ ألف فم كبئر دون ماء

ستمصّ من ذاك المحيّا كلّ ماء للحياء

وبرّأ الشّاعر فيما حكت صورته ساحة الأب المسكين، الذي إن كان سرق، فقد سرق ليأكل أطفاله فحكى الشّاعر عمّن:

يتضاحكون ويعولون

أو يهمسون بما جناه أب يبرّؤه الصّباح

مما جناه،

         ونتيجة الصّور أنّ المجتمع غَرِقَ كما غَرقتْ المُومِس في الوَحل، وصار ضحيّة مثلها؛ بسبب الجوع والمتاجرة بأقواتهم من الفاسدين. اقرأ قول الشّاعر:

صدأ المدينة وهي ترقد في القرارة من عماها:

كلّ الرجال؟ وأهل قريتها؟ أليسوا طيبين؟

كانوا جياعا - مثلها هي أو أبيها - بائسين،

هم مثلها - وهم الرّجال - ومثل آلاف البغايا

بالخبز والأطمار يؤتجرون..

................

هم الخطاة بلا خطايا

وتبع حَكِي الشّاعر عن المجتمع حَكِيه عن المُومِس حين صوّر حالها وقد صارت عجوز، فقال، وبأضلع متقوّسات؛ بسبب المخاوف والظنون، وعيون تعبى؛ وهي تفتش عن خيال سواها! وشبّهها بالحيّة الرّقطاء، وأرادنا أن نشفق عليها فحكى عنها بأنّها:

ظِلٌّ من سياط الظّالمين

وصور الشّاعر حال المُومِسات البائسات، مهما تزيّنّ كالطّير السّجين؛ فلا رأي لهنّ ولا رغبة ولكن جبرٌ وامتهان، فانظر إلى حكيه عنهنّ أنهنّ (باكيات) مهما ظننتَ غير ذلك، حين قال:

النّون في أحداقهن يرفّ كالطّير السّجين،

وعلى الشّفاه أو الجبين

تترنّح البسمات والأصباغ ثكلى، باكيات،

         ونقف الآن مع حكي الشّاعر عن المومس وعلى لسانها، في مستوى تصويريّ شبيه بـالحوار الدّاخليّ أو تيّار الوعيّ في السّرد الذي هو" تكنيك يستخدمه الخطاب السّرديّ لتقديم المحتوى الذّهنيّ والعمليات الذّهنيّة للشّخصيّة المراد الحديث عنها عن طريق وصف السّارد لهذا العالم الذّهنيّ"(18)، وسمّاه (وليم جيمس) تيّار الوعي وجعله الذي "يشمل كلّ منطقة العمليّات العقليّة بما فيها مستويات ما قبل الكلام على وجه الخصوص"(19).

         وسيُعنى الباحث بالكشف عن الصّورة الشّعريّة المقابلة لتيّار الوعيّ في السّرد؛ من خلال ارتباطها بالحكي عن ذكريات المومس التي يصوّرها الشّاعر من خلال حكاية (سرب من البطّ) التي استحضرها الشّاعر بإحالة بعثت فيها تلك الذّكريات حين تحسّست ريش جناحي طائر كان قد أحضره أحد روّاد المبغى، في (إشارة مفارقة) إلى أنّ (سليمة) وهو اسم المومس لم يعد منها أيّ طرف سليم!

         ويكشف حديث الشّاعر على لسان المومس سبب ما هي عليه الآن!

         وغالبًا ما يكون حديث الذّكريات عن الآباء مؤلمًا، فكيف إذا كان حديثًا عن ظلمٍ تعرض له أبوها، فسيكون أكثر ألمًا! فتقفز إلى ذهنها حكاية (سرب من الطّيور)، وتتذكّر صورة البطّة التي حَلُمَت بها، وسمعت بعدها صوت طلقٍ ناريّ، ولمّا ركضت إلى مكانه وجدت والدها جثّة هامدة، ثم سمعت الفلّاحين من حوله يهمسون "ورآه يسرق"! ولا يلتزم حكي الصّورة في خطاب السّيّاب التّسلسل المنطقي للزّمن، مخالفًا الإطار التّقليديّ للقصّة والرّواية، وموافقًا إطارهما الحداثيّ؛ فيقفز قفزات تقوم على التّداعي من خلال رسمه لدور المومس في قصّتها المحكيّة شعرًا؛ فيشحن الصّور بدلالات معادلة بين المحكي والواقع ومعادلات أخرى مُفارقة للمحكي عن الواقع، مازجًا بين زمنين في حي الصّورة للأحداث هما (زمن الواقع) وهو ما يحكيه الشّاعر عن حال بؤس المومس، وفساد المجتمع، و(زمن الماضي) الّذي يحكيه الشّاعر على لسان المومس بالتّداعيات التي تأتي لغرض البرهنة على ما قد قاله الشّاعر، وجرّ لغة التّعاطف مع حالها. يقول الشّاعر:

سرب من البطّ المهاجر، يستحثّ إلى الجنوب

.......................

طلق... فيصمت كلّ شيء... ثم يلغط في جنون

هي بطّة فلم انتفضت؟ وما عساها أن تكون؟

ولعل صائدَها أبوكِ، فإن يكن فستشبعون

وتَخَفُّ راكضةً حيال النّهر كي تلقى أباها:

هو خلف ذاك التّلّ يحصد. سوف يغضب إن رآها.

مرّ النّهار ولم تُعِنْهُ... وليس من عونٍ سواها

........................

يا ذكريات علام جئت على العمى وعلى السّهاد؟

         وحين يصبح المال أهم من الكرامة، تتحوّل المجتمعات إلى غابة: القويّ يأكل فيها الضّعيف، فيحكي لنا الشّاعر عن همس الفلاحين وهمس الرّجل القادم إلى المبغى أنّه يستطيع أن يشتري أيّ شيء في ذاك المبغى!

         فتتوازى بالحَكِي صورتان: صورة تُهمة المجتمع للمُومِس التي تعادل صورة تهمة المومس للمجتمع، وصورة تعاطف الشّاعر مع المُومِس التي تعادل صورة تهمة الشّاعر للمجتمع، فكلا الشّاعر والمومس يتّهمان المجتمع فيما حصل للمومس.

         وتكون النّتيجة أنّ المجتمع هو السّبب فيما حصل للمومس!

         أي أنّ الشّاعر هو صوت نفسه وهو صوت المومس، أما المجتمع فهو صدى حكي الشّاعر وبالتالي حكي المومس ولم يدافع عن رأيه في المومس أحد، بل اتّهم من كليهما، وهكذا يبعث لنا حَكِي الشّاعر عن المجتمع تعاطفًا مع صورة المومس، ويبعث لنا حَكِي الشّاعر عن المومس تعاطفًا مع صورة المومس البائسة التي عاشتها وما زالت تعيشها وقد تسبّب لها المجتمع بها، فاستقام للباحث موضوع بحثه (حَكِي الصُّورة) جاعلا هدف الحكي هو برهنة الصّورة.

ومن ذلك قول المُومِس عن المجتمع، في صورة تذمّ المجتمع وناسه الفاسدين، وتحَكِي ألمًا تحسّ به:

كيف هو الطّلاء؟

وكيف أبدو؟

وردة ... قمر... ضياء!

زُور.. وكلّ الخلق زُور،

         ويمكن أن نستنتج أنّه إذا حضر الشّاعر غاب كلّ من المجتمع والمومس، وإذا حضر المجتمع غاب كلّ الشّاعر والمومس، وإذا حضرت المومس غاب كلّ من الشّاعر والمجتمع، أي أننا ندور في فلك أبطال ثلاثة للقصّة التي يحكيها لنا الشّاعر، هم [الشّاعر، والمجتمع، والمومس].

         كما نستنتج أنّ حَكِي الصُّورة بين الأطراف الثّلاثة جاء من خلال التّعبير عن مشهد صورة المومس، بما حمّله الشّاعر من أبعاد مجتمعيّة، ممّا يدلل على أنّ الحكي من خلال صورتَي المومس والمجتمع حكيّ تبادليّ السّمّة؛ أي إنّها صورُ حكيّ ٍمُتداخلة، ويمكننا تطبيق سمة الاستبدال عليها.

         فأينما حضر حَكِي الصُّورة عن المُومِس، حضر حَكِي عن المجتمع بصورة استبداليّة؛ لأنّها صنيعة المجتمع، ولأنّ المجتمع سبب في الّذي هي عليه، ويعدّ ما تعيش به المومس العمياء من فساد صورة مصغّرة لفساد أكبر هو فساد مجتمع بأكمله!

         وفي الختام..

فقد أثارت المُومِس بوصفها الشّخصيّة المحوريّة لحَكِي صور السّيّاب اهتمامه، وأراد بتصويره لها أن تثير قضيتها اهتمامنا، لا لمجرد أنّها تعيل أسرتها وقد ظلمها المحتلّون، كما أنّنا لا نسلّم بكلّ ثقة أنّ حَكِي صورة السّيّاب عن المُومِس هو حَكِيٌّ منقول من مشاهداته، أو مسموعاته، بل يرجح الباحث أنّ حكي الشّاعر عن المُومِس وتصويره لها هو من خياله، وأنّ الشّاعر هو من أدار حَكيها، وحَكي مَنْ حولها، وكان يهدف من ذلك إلى تعاطفنا مع المظلومين البائسين في الأرض، وتعرية الظّالمين، وكشف ظلمهم من زاوية ما حكاه عن قصة المومس العمياء، إضافة إلى رغبته في تحقيق العدل الاجتماعيّ، وتوزيع الثّروات الوطنيّة.

         اقرأ قول الشّاعر عن المومسات في المبغى، وقد تغيّرن، وتَستَرْن لا بالعفّة بل بالطّلاء، حتى لتنكر أنّهنّ خُلقن طفلاتٍ بريئاتٍ في يوم ما، وهو إشارة إلى الحقيقة والسّراب، وأن ليس كلّ ما تراه أو تحسّه أو يحسّه الآخرون بالضرورة أن يكون حقيقة. يقول الشّاعر:

جيف تستّر بالطّلاء، يكاد ينكر من رآها

أنّ الطّفولة فجّرتها ذات يوم بالضّياء

-5-

         إنّ الصُّورة التي تحَكِي بعد التّعبير عن مشهد صورة المومس، هي صورة ملخّصة للمشهد، أو متمِّمة له، فتحتاج لعلاقة قَبْلية في الاتّساق النَّصِّي؛ كي تنسجم خطابًا لسانيًّا، ويمكن تتبّعها داخل النّصّ؛ للوصول إلى مغزى الصُّورة.

         ولحَكِي الصُّورة بعد التّعبير عن مشهد المومس هدفان، إن كان لعلاقة حذف (20) هما:

1-  التّلميح.

2-  الإيجاز.

    وباكتشاف المحذوف نكون قد عرفنا الرّابط الخفيّ بين المَحكيّات؛ للرّبط بين أجزاء النّصّ وإشارات محتواه الدّلاليّ، وبالحذف نستبعد عبارات ونقدّم أخرى؛ بناء على محتوانا المفهوميّ، ومرجعيّاتنا الثّقافية التي يصوّرها لنا ذهننا، وقد يشارك في توسيعها، أو تعديلها؛ لأنّ أيّ نصّ هو غير مكتمل غالبًا، بالرّغم مما يبدو عليها من اكتمال!

    ويتشابه المنتوج الفعليّ بالحذف بالمنتوج الفعليّ بالاستبدال؛ فكلاهما يعيدان التّماسك النَّصِّيّ، على المستوى اللّسانيّ، مع أن الحذف هو استبدال، ولكن من درجة الصّفر، بعلاقة قبْلية تترك أثرًا قد يُسترشَد به (21).

    ويقابل الحذف لسانيًّا الوصل الذي به تتحدّد خاصيّة تحديد الكيفيّات التي يتم بها ترابط أجزاء النّصّ اللاحقة بأجزائه السّابقة، بوسائل متنوعة، منها الرّبط الإضافيّ بين صورتين يوجد بينهما اتّحاد أو تشابه (22).

    وبالوصل نحدّد العلاقة بين اللاحق والسّابق، وبشكل مُنظّم؛ فالنّصّ هو جمل أو متتاليات متعاقبة خطيًا، ولكي تُدرَك بعدِّها وحدة متماسكة فإنّها تحتاج إلى عناصر رابطة ومتنوعة تصل بين أجزائّها (23).

    وسنبحث في الحذف والوصل من خلال بحثنا في أمثلة حَكِي الصُّورة بعد التّعبير عن مشهد المومس العمياء. يقول الشّاعر:

ويكاد يهتك ما يغلّف ناظريها من عَمَاها

قلب تحرّق في المحاجر واشرأبّ يُريد نور!

         فهذا مشهد شعريّ صُوَريّ يلخّص فيه الشّاعر حال المُومِس العمياء وهي تنتظر زبونها، علّها تحظى بمال تعيل به عيالها! وفي التّلخيص ثمّة حذف: أي حذف للتّفاصيل في حَكِي الصُّورة، ويمكن لنا استنتاجه من استخدامات الشّاعر لمجموعة كلمات أو عبارات دون أخرى، تلك التي تخفي وراءها كلمات أو عبارات أخرى، وهذا في قوله: "يهتك" وقوله: "تحرّق" وإن التصقت الكلمتان بإضافات تحيلك إلى أنّ حاجة المُومِس العمياء اليوم هي أكثر من أيّ وقتٍ مضى؛ فمن جهة ماديّة هي ما زالت تعيل أسرتها، ومن جهة نفسيّة هي على ما صوّرها الشّاعر من بؤسٍ وشقاء، وهذا ما يجعلها تحسّ بدنوّ الموت، وإن لم يُصرّح به الشّاعر.

         ومن حَكِي الصُّورة في ختام التّعبير عن المشهد قول السّيّاب:

المال، شيطان المدينة

         فالصُّورة تحَكِي سبب غواية المُومِس، وهو المال، وشبّهته بالشّيطان الّذي يغوي أهل المدينة، وفي الصُّورة تلميح إلى غرق الكلّ فيما غرقت به المُومِس العمياء، وأن مجتمع المدينة هو السبب مما هي عليه الآن، وثمّة ارتباط بين فساد أهل المدينة وفسادها، ولكلّ حياته وأسلوبه وأسبابه للانجراف وراء المال، فقد تمّمت (صورة شيطان المدينة) بلفظة (المال) قبلها، التي هي تعبير من عدة ألفاظ محذوفة، وللقارئ أن يتخيّل ماذا يجرّ المال وراءه، وكيف يغيّر من أرقام وحقائق وبراهين، فحذفت الصّورة كثيرًا من الحكي والتّفصيلات.

         ومن حَكِي الصُّورة بالوصل قول السّيّاب:

وتوسّلته: "فدى لعينك – خَلْني.. بيدي أراها"

    ويريد المُومِس، وقد حكى عنها بضمير الغائب "توسّلته"، ثم نقل حَكِيها "فدى لعينك – خلْني"، أما عبارتها "بيدي أراها" ففيها من الحسّ الكثير، وفيها من الوصل الكثير، فهي التي ختم الشّاعر فيها القصيدة، وأوجد علاقة بين ما توصّل إليه أو يحسّ به تجاه المومس، وما أراد لقارئه أو متلقيه أن يتوصّل إليه أو يحسّه من الظّلم الّذي جرّه المجتمع على المُومِس وجرّها إلى ما هي عليه.

وبقراءتنا للمقطع التالي:

وتمسّ أجنحة مرقّطة فتنشرها يداها،

وتظلّ تذكُر - وهي تمسحهن - أجنحة سواها

كانتْ تراها وهي تخفق... ملء عينيها تراها

         نقف مع استحضار الشّاعر لعنصر إضافيّ هو (الواو) في (وتمسّ)، واستحضاره لعُنصر الزّمن في (تمسّ) و(تظلّ) و(تذكُر) و(كانتْ) فتنفتح أمامنا قراءات لدالات الزّمن في الأفعال المضارعة التي تعرب عن حالة جرى وقوعها عند الكلام، وبقيت مستمرة في الوقوع، مع دلالاتها على الترجّح في الحال، على عكس الفعل الماض الذي يعب عن حالة مضى وقوعها، ولم تعد تستمر إلى الآن (24)، والقول على لسان المومس.

         كما نستنتج من تكرا مشهد الطّيران والأجنحة أن ذكريات المومس قد توقفت عند ذاك المشهد الذي يصورها حالمة كأي بنت في العالم بأن تطير وتحقق ذاتها وكرامتها، هذا من جهة، وبأنّها لا تتذكّر من حاضرها ذكرى تمسح تلك الذّكرى وتتفوّق عليها؛ فالصّور تتخزّن في الذّاكرة، وتقفز إلى السّطح كلّما لاح برقٌ يُذكّر بها، ولا يقفز منها إلا ما يلتصق باهتمامات الّذي يتذكّر، وتكون الصّور المُتذكّرة هي الأقرب إلى ذهن صاحبها، والأسرع قفزًا إلى سطح أحداث أيّامه، خصوصًا إذا كان غير راضٍ تمامًا عن حياته الجديدة، وقد يكرّر الشّاعر صورًا ومشاهد يُكثر من تذكّرها ولو على لسان المومس؛ في رغبة منه إلى إقناعنا بأن المجتمع هو السبب فيما آلت إليه المومس، جـاعلا مـن تراكيبـه الصـّوريّة المكـرّرة مفتاحًـا لمشاهد وإحالات شـتّى يـذكرها الشّاعر حينمـا يعتريـه الشّعور المستدعي لها في صفحة الذّاكرة(25)، فيأتي بالمعادل لها من حياته القديمة التي كان راضيًا عنها، وهذا ما حصل مع المومس حين حَكَت لنا قصّتها مع الطّيور بعدما لامست بيديها أجنحة طير أحضره زبون لها! وما من جديد في حياة المومس يمسح ذكرياته القديمة! هذا من جهة.

         ومن جهة أخرى فإنّ المومس بما صور لها الشّاعر وحكته صورها وما فهمناه من وراء استحضار الشّاعر لدالات الزّمن الّتي حذفت كلامًا استطعنا استنتاجه – إنّها تؤكّد أنّ ما هي عليه الآن وكثير ممن هم معها كان سببه خارجًا عن إرادتهنّ، فقد وُلِدْن بريئات ولهنّ كما لغيرهن أجنحة تحلم بالطّيران والعيش الكريم! ولكن الزّمن تغيّر ولم يوف المجتمع حقوقهنّ فجرّهن إلى ما هنّ عليه!  

         والنّتيجة أنّ الذي كانت قد تذكّرته المومس لم يغب عن بالها، وأنّها تريد لمن يسمعها أن يصدّق أنّه ما من بغاء بلا سبب، وأنّ المجتمع يتحمّل السّبب الأكبر فيما توصّلت إليه بنات المبغى! فالزّمن أحد أهم المقولات التي يعيد البحث اللّساني طرحها ومساءلتها من منظور جديد (26).

ثم يلخّص الشّاعر موقف المُومِس هذا على لسانها في صورة تحَكِي أكثر من مُجرد ما تحمله ألفاظ وعبارات سطريها، إذ يقول الشّاعر على لسان المومس:

يا مستباحة كالفريسة في عراء يا أسيره

تتلفتين إلى الدّروب ولا سبيل إلى الفرار؟

         ولقد حذف الشّاعر (مَنْ هي المستباحة) أي لفظة المُومِس، وقد عرفناها من علاقة قبلية (بعيدة) داخل النّصّ، كما حذف (مَنْ هي المقصودة بقوله "تتلفتين") أي المُومِس، وقد عُرفت من علاقة قبيلة (قريبة) داخل النّصّ.

         فحَكِي الصُّورة الختاميّة هو من أعادنا للمحذوف من الخِطاب النَّصِّي، والفرق بينه وبين الاستبدال أن الحذف لا يُبقي ما يُسترشد به كالمُستبدل منه (27).

         وختامًا..

         فهناك ثأرٌ تحمله المُومِس في صدرها، وقد حَكَى لنا الشّاعر عنه بعد التّعبير عن المشهد، فقال:

وكأنّ موجة حقدها ورؤى أساها

كانت تقرّب من بصيرة لبّها صورًا علاها

صدأ المدينه

         فحكت الصورة لنا عن حقدٍ شبيه بالموج سيأخذ كلّ رجال المجتمع الّذين أساؤوا لها، وسيأخذ أولئك الّذين شاركوا في قتل أبيها! كما حكت الصُّورة عن صدأ المدينة الذي تعرفه المُومِس عن قرب بما تعيشه من أجواء مع رجال المجتمع الفاسدين!

         ويمكن للتّرسيمة التّالية أن تلخّص قصّة المومس كما روتها صور السّيّاب، وحَكَتها مرتبطات الصّور واستنتجناه ممّا حلّلناه وتوصّلنا إليه في أنماطٍ من الحَكِي في صور المومس كما أرادها السّيّاب الشّاعر. والقراءة تكون حسب الأسهم:

 


الخاتمة:

         يجذب حَكِي الشّاعر باستثمار الصُّورة الشّعريّة انتباه قارئه، ويسترشد النّاقد بحَكِي الصُّورة؛ لفهم ما يريده الشّاعر من صورته الكلّيّة، ومن بقيّة جزئيات صُوَره الّتي يتحدّث عنها، ويُستدلّ إلى حَكِي الصُّورة من عبارات تدخل في تشكيلها، وتصل بين ألفاظها، أو عباراتها، أو جملها، أو عبارات من خارجها قد نستثمر مرجعيّاتنا في الاستدلال إلى طاقاتها المعرفيّة، أو نستدل إلى معانيها ودلالاتها المختفية وراء ألفاظ صورتها أو عباراتها أو تراكيب جملها، من خلال خاصية الاستبدال أو الحذف، مع الإشارة إلى تعبيرين هما التّعبير المباشر، والتّعبير غير المباشر.

         ومن خصائص حَكِي الصُّورة الشّعريّة أنه يلخّص ما يريده الشّاعر، ويمكّن القارئ من معرفة الصّورة الكلّيّة والمركزيّة في القصيدة؛ لأنّها تتكرّر مشاهدها في القصيدة على حساب بقيّة الصّور الجزئيّة الّتي لا تقلّ أهميّتها عنها، ولكنها هي الصّورة الّتي لها الفضل في إيجاد بقيّة الصّور الّتي تتولّد مِن أطرافها.

         وتمثل المُومِس العمياء صورة كبرى وكلّيّة ابتكرها السّيّاب، وغلّفها بإشارات ودالات شكّلت مسارات أحداث قصّتها مع زبائنها، ومجتمعها، وذكرياتها الّتي امتدت على طول القصيدة؛ لتشكّل أنماطًا من الحكي ثلاثة هي: نمط الحَكِي قبل التّعبير عن صورة المومس، ونمط الحَكِي خلال التّعبير عن صورة المومس، ونمط الحَكِي بعد التّعبير عن صورة المومس.

         وتَظهر تلك الأنماط تارة من ألفاظ يقصد إلى استحضارها الشّاعر، وتختفي أخرى ليكشف عنها النّاقد ستارها مستعينًا بإحالات قبلية أو بعيدة تُحيل إلى معانٍ قد اختفت إمّا لأنّ لها قرينة/إحالة دلّت عليها، أو أنّها اختفت لأنّ الشّاعر لا يريد حَصْرَها فلا يُبق لخيال الشّاعر نصيب في استكناه المعنى، كما أنّه لا يريد التّصريح بها، بل يريد من القارئ استنباطها بما وصل إليه من فهم فيما قبلها؛ فيضمن الشّاعر أمرين، الأول: فهم القارئ للنّصّ وأبعاده، والثاني: وصول فكرته إليه، ومشاركته إحساسه.

         وأخيرًا..

         فيمكن أن نستنتج أنماط الحَكِي باستثمار تركيب الصُّورة الشّعريّة، وباعث الصُّورة المنتمي للنّمط، ودالات اتّساق الصّورة اللّسانيّة في الخِطاب الشّعريّ النَّصِّي والنّتيجة التي من أجلها استجلب الشّاعر صورته تلك وقفزت إلى ذاكرته أو ذاكرة شخصيّته الّتي يتحدّث، ويصوّر، ويحكي على لسانها، ومن أجلها.. كما توضح ذلك ترسيمة الجدول التّالية:

 

نمط الحَكِي بالصُّورة

باعث الصُّورة

دالات اتّساقها

في الخِطاب النَّصِّي

النّتيجة

1-    الحَكِي بالصُّورة قبل التّعبير عن المشهد.

أسطوريّ

أ‌-      إحالي مقامي (من خارج النّصّ)

ب‌-    إحالي نصّيّ (من داخل النّصّ)

 

معادلة حَكِي الأسطورة بالحَكِي عن صورة المُومِس العمياء.

وغرضه:

النّقل

2-    الحَكِي بالصُّورة خلال التّعبير عن المشهد.

 

اجتماعيّ

استبداليّ

تكرار صورة المُومِس العمياء الذي يصنع منها صورة مركزيّة تلتفّ حولها الصّور الجزئيّة في القصيدة.

وغرضه:

الإقناع

3-    الحَكِي بالصُّورة بعد التّعبير عن المشهد.

 

فلسفيّ

حذف لعلاقة قبلية داخل الخِطاب النَّصِّيّ، وغرضه:

أ‌-      التّلميح.

ب‌-   الإيجاز.

 

الكشف عن حقيقة سبب حال المُومِس.

وغرضه:

لوم المومس للمجتمع

 


الهوامش:

(1)  إحسان عباس، اتّجاهات الشّعر العربيّ المعاصر، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، ط(1)، 1978م، ص 155.

(2)  قصيدة "المومس العمياء" للشّاعر بدر شاكر السّيّاب، هي نصّ شعريّ ذائع الصّيت، وقد طبعه الشّاعر ضمن ديوانه الأكثر شهرة (أنشودة المطر)، وقد تعارف على تسميته بالملحمة؛ نسبة إلى طول أسطره الشّعريّة، وتنوعت موضوعات القصيدة من مقدّمة عن المدينة وجوّها البائس العام في صورة ليليّة جمعت عدة صور جزئيّة للعابرين فيها وصور جعلت منها دار شهوة وفساد، وعادلت صورتها بذلك حالة البؤس التي تعيشها المومس العمياء؛ بعدّها الموضوع الرئيس في القصيدة، وما يحيط بها من صور جزئيّة عن حال المومسات وزبائن المبغى، وحالهنّ البائس تجاه حاجتهنّ للمال، وسيطرة الفاسدين على منابعه، والتّحكّم بخيرات العراق!

والقصيدة في ديوان أنشودة المطر لبدر شاكر السّيّاب، دار مكتبة الحياة، بيروت، ط1 ،1969 م، ص 173، والمجموعة الكاملة لبدر شاكر السّيّاب، دار التّراث، بيروت، 1989م، ج(1)، ص 509.

(3)  نجيب فايق أندراوس، المدخل في النّقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصريّة، القاهرة، 1984م، ص 156

(4)  عزّ الدّين منصور، دراسات نقديّة ونماذج حول بعض قضايا الشّعر العربيّ المعاصر، دار المعارف، مصر، 2014م، ص 21.

(5)  ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1968م، ص76. وقد اختلفت ترجمات الكتب التي أخذت عن (فوكو) بين (المنطوق = الملفوظ = العبارة).

(6)  ميشيل فوكو، نظام الخِطاب، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 2009م، ص 4.

(7)  الزواوي بغورة، مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، المجلس الأعلى للثقافة، بيروت، 2000م، ص 95.

(8)  مجاهد عبد المنعم مجاهد، هيدجر راعي الوجود، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1983م، ص 27.

(9)  انظر مفهوم الاتّساق عند يحيى عبابنة وآمنة الزعبي في بحثهما: عناصر الاتساق والانسجام النصي/ قراءة نصية تحليلية في قصيدة " أغنية لشهر أيار" لأحمد عبد المعطي حجازي، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإنسانية، المجلد 29، العدد1+2، 2013م، 510-511، أما الصُّورة الشّعريّة فتعريفها معروف ومتداول، ومنه أنها:" هيئة تثيرها الكلمات بشرط أن تكون معبرة وموحية في آنٍ معًا". ولها محدّدات وضوابط وبواعث، فمنها ما هو أسطوريّ، ومنها ما هو رمزيّ، وتعتمد على وجود الحدث المحرك للكلمات، وهو الفعل في الجملة المعنية بتصوير الشّاعر. وللصورة جانبان. ولها معنيان أحدهما سطحي والآخر عميق. وسيعنى الباحث بربط تحليل الصُّورة بفكرة حكي الشّاعر قبل التّعبير عنها أو خلال التّعبير عنها أو بعد التّعبير عنها. انظر في الصُّورة الشّعريّة وتعريفاتها عماد الخطيب، الصُّورة الفنية أسطوريًّا، دراسة في نقد الشعر الجاهلي وتحليله، دار جهينة للنشر والتوزيع، عمان، 2007م، ص12-13.

(10)                  دومينيك مانغو، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، ترجمة: محمد يحيى، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ومنشورات الاختلاف، الجزائر، ط(1)، 2008م، ص 18.

(11)                  سعيد يقطين، تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1989م، ص 17.

(12)                  ج ب براون، وج بول: تحليل الخطاب، ترجمة: محمد الزليطني ومنير التريكي، تونس، 2006، ص 36.

(13)                  محمد الشاوش: أصول تحليل الخطاب في نظرية النحوية العربية، المؤسسة العربية للتوزيع، تونس، ج1، 2001م، ص126.

(14)                 Legend, www.dictionary.cambridge.org

وانظر:

معجم المصطلحات الأسطورية، خليل أحمد خليل، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1996م.

وتجليات الأسطورة في رواية (فاجعة الليلة السابعة بعد الألف، رمل الماية،ج1 لواسني الأعرج)، ياسمينة عواد، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة قاصدي مرباح، 2011م، ص 10، والأسطورة والموروث الشعبي في شعر وليد سيف، ديانا ماجد حسين ندى، رسالة ماجستير، جامعة النّجاح الوطنيّة، فلسطين، 2013م، ص84.

(15)                  محمد خطابي، لسانيات النص، مدخل إلى انسجام النص، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1991م، 15.

(16)                  أحمد عفيفي، نحو النّص (اتجاه جديد في الدّرس النّحويّ)، مكتبة زهراء الشّرق، القاهرة، الطّبعة الأولى، 2001م، ص 117.

(17)                  يمكننا القول إن الأسطورة هي شكل من أشكال الإحالة المقامية (الخارجية)، وهي إحالة تعتمد في فهمها على ثقافة القارئ والمجتمع الذي يتداولها.

(18)                  أحمد عفيفي، نحو النّصّ، 123.

(19)                  روبرت همفري: تيار الوعي فى الرّواية الحديثـة، ترجمة: محمود الربيعى، دار المعارف، القاهرة، ط( 2) ، 1975م، ص 54 .

(20)                  السابق، ص17.

(21)                  محمد الريحاني، اتّجاهات التّحليل الزّمني في الدّراسات اللغوية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط(1)، 1997م، ص70.

(22)                  إلهام أبو غزاله، وعلي خليل أحمد: مدخل إلى علم لغة النّصّ/ تطبيقات لنظرية روبيرت جراند الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1999م، ص13.

(23)                  الحذف من العلاقات الداخلية المهمة التي تسهم في تسخير الطاقات التّعبيرية للغة، إذ يعدّ إحالة قبلية، وهو من العلاقات التي لا تترك أثرًا في نصانية النص؛ لأن عملية الاستدلال عليه إنما تعتمد على جملة سابقة عليه، ولذا فهو لا يعمل على اتساق النص وترابطه، مما يعني أنه لا يترك مثل الأثر الذي يتركه الاستبدال، ومع هذا فإن المقصد الإيحائي الذي قصد إليه الشعراء المحدثون يتطلب من الشّاعر عدم التصريح بكل شيء والبوح به، وهو آلية تنشط خيال المتلقي وتقوي العلاقة بين النص والمتلقين دون أن تكون قصدية تمامًا في هذا الاتجاه، بل ربما تحققت ضمن قصدية تحميل المبدع نصّه طاقات تعبيرية يقصد إليها، وكانت هذه الطاقات ناتجة عن عنصر فوق فونيمي، ويعبَّر عنه كتابيًا بنقط متتالية، وقد لا يعبَّر عنه بقيمة كتابية، وعندها لا بدَّ من تكليف المتلقي باستنتاج هذا الحذف، وهو عبء لا يكون ثقيلا إذا كان المتلقي على وعيّ عالٍ بالنظام التركيبي للغة. انظر يحيى عبابنة وآمنة الزعبي، عناصر الاتّساق والانسجام النصي 525-526، وانظر أحمد عفيفي، نحو النّصّ 126.

(24)                  روبرت دي بوجراند، النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، ط(1) ، 1998م، ص301.

(25)                  محمد خطابي، لسانيات النص، 23.

(26)                  عز الدين علي السيد، التكرير بين المثير والتأثير، عالم الكتب، بيروت، 1978، ص 63.

(27)                  سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي، ص63.

المصادر والمراجع

المصادر:

1-  بدر شاكر السّيّاب، أنشودة المطر، دار مكتبة الحياة، بيروت، ط1 ،1969 م.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، المجموعة الكاملة، دار التّراث، بيروت، 1989م.

المراجع:

الكتب العربية والمترجمة:

2-  أندراوس، نجيب فايق، المدخل في النقد الأدبي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة سنة 1984م.

3-  بغورة، الزواوي، مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو، المجلس الأعلى للثقافة، بيروت، 2000م.

4-  براون، ج ب، وبول، ج: تحليل الخطاب، ترجمة: محمد الزليطني ومنير التريكي، تونس، 2006م.

5-  بوجراند، روبرت دي، النص والخطاب والإجراء، ترجمة تمام حسان، عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م.

6-  خطابي، محمد، لسانيات النص، مدخل إلى انسجام النص، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1991م.

7-  الخطيب، عماد، الصُّورة الفنية أسطوريًّا، دراسة في نقد الشّعر الجاهليّ وتحليله، دار جهينة للنّشر والتوزيع، عمان، 2007م.

8-  خليل، أحمد خليل، معجم المصطلحات الأسطورية، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1996م.

9-  الرّيحاني، محمد، اتّجاهات التّحليل الزّمني في الدّراسات اللغوية، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط(1)، 1997م.

10-        السيد، عز الدين علي، التكرير بين المثير والتأثير، عالم الكتب، بيروت، 1978م.

11-        الشاوش، محمد: أصول تحليل الخطاب في نظرية النحوية العربية، المؤسسة العربية للتوزيع، تونس، 2001م.

12-        عباس، إحسان، اتّجاهات الشّعر العربيّ المعاصر، المجلس الوطنيّ للثّقافة والفنون والآداب، الكويت، ط(1)، 1978م.

13-        عفيفي، أحمد، نحو النص (اتجاه جديد في الدرس النحوي)، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001م.

14-        أبو غزالة، إلهام، وأحمد، علي خليل: مدخل إلى علم لغة النص/ تطبيقات لنظرية روبيرت جراند، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1999م.

15-        فوكو، ميشيل، حفريات المعرفة، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1968م.

16-        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، نظام الخِطاب، ترجمة: محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 2009م.

17-        مانغونو، دومينيك، المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب، ترجمة: محمد يحياتن، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ومنشورات الاختلاف، الجزائر، ط(1)، 2008م.

18-        مجاهد، مجاهد عبد المنعم، هيدجر راعي الوجود، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1983م.

19-        منصور، عزّ الدّين، دراسات نقديّة ونماذج حول بعض قضايا الشّعر العربيّ المعاصر، دار المعارف، مصر، 2014م.

20-        همفري، روبرت: تيار الوعى فى الرواية الحديثـة، ترجمة: محمود الربيعى، دار المعارف، القاهرة، ط( 2) ، 1975م.

21-        يقطين، سعيد: تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت ، 1989م.

الرسائل الجامعيّة:

22-        عواد، ياسمينة، تجليات الأسطورة في رواية (فاجعة الليلة السابعة بعد الألف، رمل الماية، ج1 لواسني الأعرج، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة قاصدي مرباح، الجزائر، 2011م.

23-        ندى، ديانا ماجد حسين، الأسطورة والموروث الشّعبي في شعر وليد سيف، رسالة ماجستير، جامعة النّجاح الوطنيّة، فلسطين، 2013م.

الدّوريات:

24-        عبابنه، يحيى والزعبي، آمنة: عناصر الاتساق والانسجام النصي/ قراءة نصية تحليلية في قصيدة " أغنية لشهر أيار" لأحمد عبد المعطي حجازي، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإنسانية، المجلد 29، العدد1+2، 2013م.

المواقع الرّقميّة:

25-          Legend, www.dictionary.cambridge.org

 

 

 

 

 

 

 


تعليقات