من مقالات أحوال المعرفة... جَنينيّة النّصّ الشّعريّ السّعوديّ منحى تطبيقي من شعر إبراهيم الوافي/السعودية


جَنينيّة النّصّ الشّعريّ السّعوديّ

منحى تطبيقي من شعر إبراهيم الوافي/السعودية


الجنينيّة مصطلح يرد في تعريف منهج (النقد التوليدي)؛ الذي يعرفه البعض بأنه دراسة النص في حالته الجنينية، أي دراسة ما قبل تكوين النص، وعبوره إلى حيّز الوجود.

وقد دُرِسَت الجنينية من خلال دراسة (بيولوجية النص)، وقيل إن رحم القصيدة/المشهد يتهيأ لاستقبال موضوعات كثيرة وألفاظ كثيرة تتأثر بإمدادات ومؤثرات لا حصر لها ثقافية واجتماعية وغيرهما؛ ثم تبدأ عملية إنبات الأبيات الشعرية إلى أن تتشكل ملمحًا حسيًّا، كما في الترسيمة التالية:

فهل يمكن دراسة ما كان يجول في ذهن الشاعر، قبل إخراج النص إلى حيز الوجود؟ هل تنتمي هذه الدراسة إلى حيز المكان؟ أم تنتمي إلى حيز الزمان؟ ومن أي وجهة ندرس العلاقة بين النص والشاعر جنينيًّا؟

        وسنطبق الجنينية على نماذج من نصوص الشاعر السعودي إبراهيم أحمد الوافي، وقد صدرت له مؤخرًا نصوص بعنوان: (ما يشْبُه الخبْز فينا - حياة القصيدة)، وتظهر فيها الجنينية بأسمى معانيها؛ لأن الوافي ومنذ العنوان الفرعي، يحدد لنا ما يريد فهو يكتب لنا حياة نصه/القصيدة، مع الاتفاق بين الشعراء على أن ولادة القصيدة أمر عسر، يقول الشاعر:

كم من قائل هنا:

أنا .. أم القصيدة ؟

صمت الكلام أم كلام الصمت ؟

مع الوقت لا أعرف هل أستمع للصمت

أم أقوله ؟

هل سأكون أنا أم ما يريد قلقي ؟

ثم يصور الشاعر حالة القصيدة الجنينية عنده:

ثم يجليها الشاعر من غربتها، ويستحضرها ويضمّها إلى مدينته/ مدينة الأحلام، ويشبه ولادتها العسرة عنده بولادة النبوءة، ويجعلها في الظل إلى أن تظهر من ولادتها، ويجعل لها مكانًا يتساوى معها حالا قلقة وذات نوبة عصفورها سارح؛ لأن الشاعر يشبه الليل وهو يخطو وحيدًا، ولأنه يسكنها وهي تسكنه كما الأنثى. يقول الوافي:

هل حالة الشعر انفصامية المبدأ، فوضوية المعتقد؟

هل ينخلع الشاعر عن ذاته حينما تخلو به ويخلو بها؟

وهل يحلو له المقام معها في مدينة الحلم التي يسكنها كلما

سكنته القصيدة؟

ثم ينتقل الشاعر من مرحلة القصيدة/المدينة/الأنثى فيتساءل الشاعر مجموعة أسئلة تتعلق بالقصيدة، ولقائه معها، وثقته بها، وخيانتها له، ويربط كل هذا بنفسه التي تدّعي الشّعر، فيقول الوافي:

يا شاعري .. ليس هذا زمنك حيث تتلبّسني

ستطيع الخروج بي حينما كان ومازال الخروج إلى الشارع دخولٌ في المدينة ..!

كيف ومتى وأين تكتب القصيدة؟!

كيف ستلتقيني ؟

وهل ستثق بالساعة دائمًا؟

ماذا لو خانتكَ يومًا؟

هذه الأسئلة التي تحتملها دائمًا كلما ادّعيتَ الشعر

وعندما نتساءل عن القصيدة، نجده يبادرنا القول:

القصيدة حالٌ لا يُسألُ عنها بكيف..

وزمن لا يتوقعه إلا من لا ينتظره..

وللأنثى/القصيدة حضورها الزاهي، وقد شبه الشعراء قصائدهم بأنثى، واحتلت الأنثى مكانين الأول: مكان الإلهام للشعر، والثاني: مكان القصيدة نفسها. وأنثى الإلهام هي نفسها أنثى الشعر ولكن الأولى جنينية الطابع والثانية نبتت نباتًا حسنًا، فيقول الوافي:

حسبي أنك هبة الشعر لي !

لا تنامي وحيدة

أشعلي شمعة واقرئيني قصيدة

وأخيرًا يختم الشاعر نصه بأنه في ذات حبٍّ شهيّْ.. كان الشاعر طفل القصيدة؛ وفي صورة جنينية المشهد، يقول الوافي:

أينا يملك الآخر يا شاعري ؟!

خلقك لي أم ولادتي قبلك

تحقيقًا لمعنى الجنينية، وحين صار صديقها، حوته المدينة كما حوتها، وقد أغوت القصيدة صاحبها في إلهامها إياه وفي صمتها عن إلهامها!، يقول الوافي:

الشاعر المجنون يكذبُ ..

أو يموتُ من الهوى

والشاعر لا يريد لقصيدته أن تكون بريئة بل يريدها أن تتصف بالحديثة الجادة التي لا تكون في أجمل حالاتها إلا حينما تتلبّسها حالة من تمرّد.

 

        وسنقف الآن مع قصيدة للوافي بعنوان( وعلى المقيمين خارجها مراعاة فارق التصويت)، التي تؤكد على أنثوية القصيدة ومدنيها وغوايتها، وفي مطلعها يستدعي الشاعر مدينة (الرياض) التي ترتدي جَوْربًا للشتاء الثقيل، وتنتعلُ الصبح دفئا تقصّى ظلالَ الضحى ...

وإن البحث في جنينية النص الشعري بحث عن مراحل تسبق التكوين، بافتراض أن الكلمات المتشكلة في النص كانت مخزونة، قبل خروجها، وأن في طريقة تشكيلها آلية يمكن لنا دراستها من خلال التقديم والتأخير، أو الذكر والحذف، أو الاختيار والترتيب، وهل تمّ اختيار (الرياض/المدينة) عن قصد؟ ولماذا تم اختيار فصلها الشتوي؟ ولماذا ذكر الشاعر صباحها الدافئ؟

إننا نتحدث عن لحظة جمالية جنينية، وهي لحظة جمالية قادرة على تصوير واقع جنيني، وواقع جنيني هو مجتمع الجديد تشكله الرياض العاصمة الجديدة، فمن الجنينية سننفض غبار الواقع الجنيني، ومن الجنينية سنكتشف قدرة الشاعر على الوصف في مراحله الجنينية، تلك المراحل التي صنعت منها امرأة/صديقة وأخرى امرأة/ساحلية تحدّث الشاعر عن القصيدة، وعن الشعر وتضع معيارًا لذلك، ويحدّث الشاعر تلك المرأة المتلونة عن غيّها، فيقول لها أن تهدأ لأن:

.. القصيدةَ واقعةٌ بينَ نصْبِ وجزْم

ولأن:

الصديقة ما بين عزمِ وحزمْ ..!

ولأن:

 .. المسافة ما بين حزن الصدور

ولأن المطلوب: شِعرِ لا شعر اللِّحى فذاك يذكرنا بالمطلع الجاهلي ! ولأن المطلوب: أن نكتب بالقوافي الشعرَ من غير خارطةِ من شمال أو جنوب، ولا توجيه؛ فالخرائطُ تدمرّها الأفكار الهدّامة وهذا ما شكّله الشاعر جنينيا بقول:

عبوة ناسفةْ

وتحضر في اللغة الجنينية: الخرائط + شمس الرياض + العاصفة + المسجد + جدي + أبي + الظهر +  العصر +  الصوم + القيلولة + الدكاكين + المجالس + رجال

فتبدو تلك اللغة جنينية الطابع وتحضر لولادة جنينيها؛ كأنها تغذيه، فبيّنت لغة القصيدة تلك البدايات التي من أجلها نشأت القصيدة وهي صورة ولادة القصيدة عند الشاعر، كما بينت سهولة لغة قصيدة الشاعر وقد اختار لغة متداولة يعرفها كل من عايش الرياض وأهلها.    

ومن هنا تدرس الجنينية نتاجًا معرفيًّا متشكلا بوعي عند الشاعر؛ لأن القصيدة ومنذ لحظتها الجنينية الأولى تتشكّل لفظًا لفظًا ومعنى معنى، ويمكن أن نسمي هذا بـ (التآلف الجنيني) ويمكن أن نتحدث الآن عن (قوة) من نمطٍ خاص تلتفّ حولها مجموعة قوى تشد من أزر كل جزء من القصيدة كي تخرج (جنينًا) معافى.

يتابع الشاعر رسم صورته باعثًا الأمل وناشرًا الحبّ عبر (النوافذ)، وقد شبهها بالمرأة التي يراودها البرد عن نفسها، ويحيط بها الموت، وهي حزينة، وآمن قلبُها، وشوارع (الرياض) ما زالت شتويّة ..

ثم يستحضر الشاعر صورة مقابلة للرياض الشتوية هي صورة الرياض الصيفية؛ لتكتمل مشاهد القصيدة بلوحتين متقابلتين، فيقول:

الرياض إذا تحلقُ الشمس .. كل صيف

ويذكرك الشاعر بالصورة التي تركها فيقول عن الرياض التي كانت:

تلسعها جمرة البرد في قلبها في شتاء ..

ويستحضر الشاعر صورة موضوعية لمجتمع الرياض الذي لا بدّ من استحضاره طبقًا للحديث عن الجنينية، فواقع هو الرياض، وواقع هو برد الرياض، وواقع هو صيف الرياض، وواقع أن:

تشكو (الرياض) علينا الشتاء!

لأنها/لأننا:

بلا أصدقاء !

وتصبح الرياض المدينة/السيدة:

نصف سيدة

وقد:

كحّلت عينها بالنقابِ وراحت تؤدي صلاة الجماعةِ في بيتها .

أقرأت طفلها سورةَ الفتحِ

مدّت يداها تَعَسّسُ جوعَ النجوم

ونامت على ( تلّةٍ ) من سماء !

هكذا تستحضر الجنينية نفسها، من خلال امرأة تربي الشاعر جنينًا ما زال يتعرف إليها من جديد، والشاعر إذ يستذكر الرياض وما يريده منها، يقول عنها بأنه:

لازال مسجدها قائما، ومنابرها لم تزل أدعيةْ ،

وما علاقة هذا بجنينية المكان الذي لم يتطور، إنه قوله:

النساء اخترقنَ الغياب وجئنَ بحادثة في طريق القصيدة.

إن حضور القصيدة + النساء + الرياض حضور جنيني؛ فالقصيدة جنين ينتظر الولادة، والنساء ينتظرن الرياض الجديدة، والرياض تنتظر ولادة المكان الجديد، وهذا قول الشاعر في المشهد التالي:

الشوارع مرسومة فوق شاشات هاتف أنثى

فأحملها في يدي !

والكتابة تعويذة القادمين إليها يسومونها سوء عاقبة المبصرين

لم أجئها حنينْ

جئتها ذات حين

في مساء حزين

واحتقانٍ دفينْ

الشوارعُ كل العواميد فيها مضاءةْ

إلى أن يقول:

الرياضُ نداء الصحاري الذي طار نحو السماء .. صباحُ الإشارات مزحومة .. فارس جاءها من بقاء !

لا تكممْ يدي ..

فالجنينية التقت لفظًا ومعنى: لفظًا في الكلمات التي أراد لها الشاعر أن تنمو جنينًا ذا معنى، وعبر الشاعر عن ذلك المعنى بامرأة تنتظر الكثير من الرياض.

ثم حضرت أداة الجنينية الأولى وهي لغة السّيرة القصصية التي يرويها الوافي شعرًا، بما فيها من صور تنتمي إلى اللحظة الأولى، وتستدعي شخصية معادلة لشخصه هي شخصية النبي يوسف– عليه السلام-التي تشبه حاله، فقال:  

ليس بين رعاش الأصابع إلا صلاة أبي ماتَ من دونِ قيلولةِ حينما دلّكَ الموتُ أعضاءهُ واستوى في يديه ..!

لستُ أبكي عليه ... !

ظلُّ بيتي نمت فيه نخلةُ جدي فأطعمتُ من عذقها إخوتي ..!

خذ يدي لا تدعني ..

فالدماء التي في القميص دمائي

وما كذبوا إخوتي حين قالوا قتلناهُ ما كذبوا حين قالوا وكيف نقول له الذئبَ ما في المدينة إلا كلاب وأحياؤها كلها من نساء ..!

خذ يدي لا تدعني ..

ستبيضُّ عينُ أبي وهو يبكي

فما كنتُ يوسُفَهُ وهو يعقوبُ

لكنني كنتُ أتلو بدكَّانه سورةَ الأنبياء ..!

فمن أين ليوسف عليه السلام أن يحضر؟ وكيف راق لنا حضوره. إنها الجنينية التي ترسلنا حيث البدايات، وحيث المكان الأقدم والزمان الأقدم الذي يشبهنا، ثم يتلو ذلك تركيز على (الرياض/المدينة/المرأة/الشعر)، فيعيدها الشاعر الرياض إلى جنينيتها يوم بنيت من أجل كل الناس وما اختلفت أحياؤها باختلاف المكان والناس فعليها أن تتخذ من العدل منهجًا لها! وباستنطاقٍ جنينيّ لألفاظ الشاعر نجد:

الرياض = سيّدة = تركت ظلّها في مهبِّ المشيئةْ = يسألها الليل عن وطنٍ لا تباغض فيه.

        ثم يستحضر الشاعر لغة العدل والمساواة باستدعائه لأحياء الرياض، فيقول مستهجنا لوجود أحياء في الشمال أكثر حضارة من أحياء أخرى في الجنوب، فيقول:

كلنا في الشمال العليا

إذا كان بعض السويدي الجنوبْ

ويؤكد على جنينية الرياض في دمه؛ فلها ينتمي، وبها نشأ، وبها لمعت شاعريته، فيقول: [كلنا للرياض نحرّك عقربَ ساعتنا باتجاه شوارعها] ويختم الوافي نصه بالشّاعريّة والبياض اللذين جاءا به إلى الرياض... أسطورة الماضي وأسطورة الحاضر وأسطورة المكان وأسطورة الزمان هي الرياض.

        ويبقى للأنثى عند الوافي حضورها المميز، مع التركيز على العلاقة بين الأنثى = والشعر؛ فمن قصيدة (وحيدًا من جهة خامسة)، ومنذ المطلع يبادر الشاعر أنثاه، ويقصّ لها سيرة الشعر، وهنا تحضر الجنينية، من مهد سيرته مع الشعر، فيقول:

أبادرُ أنثى ..

أقصُّ لها سيرةَ الشعرِ

حين تكلَّمتُ في المهدِ

وتحضر الألفاظ التي تخدم ولادة الشعر عنده، إنها: الذكريات + الحنين + الخوف + البحر + أحلام + البحّارة المنهكين + الدفاتر البيضاء، وهي سيرة جنينية لولادة شعره... اقرأ هذا المشهد التصويري السيريّ:

وطوَّقتُ ذاكرتي بالحنينْ،

على هامش الياسمين

حمَلْتُ لعينيكِ

خوفَ المراكبِ من هدْأةِ البحرِ..

أحلامَ بحَّارةٍ منهكينَ

وجئتُ على دفترٍ من بياضِ السنينْ ...

لأنثى أبادرها .. فتفضُّ بكارةَ صوتي

أواعدها.. فتقصُّ عليَّ حكايةَ موتي

أودعها فتموء القصيدةُ في ركنِ قلبي

تبلِّغني أنها أنجبت بعدها ورقًا أصفرًا وخريفًا حزين!

فهل يبقى المعنى مختفيًا وراء جنينية الشعر عند الوافي، أم تظهره القوافي عنده وتفضحه الكلمات، والشاعر كعادته يبقي جنينه مختفيًا ما لم تحكه الأحداث، ولكنه قد يخفي بعض المعاني لأنه لا يريد للفتنة أن تستيقظ فيحتفظ لنفسه بما وراء المعنى، وهذا ديدن الشعر منذ أن بدأ فإنه كما الفنون كلها يقول نصف الحقيقة، وعرفنا من خلال النص أن الشاعر منزعج لما جرى في حرب العراق، لكن هذا لم ينف أن تنطلق جنينية الشعر عنده من حيث هو أنثى.

 

جَنينيّة النّصّ الشّعريّ السّعوديّ

مختارات من شعر إبراهيم أحمد الوافي أنموذجًا

 

الجنينيّة مصطلح يرد في تعريف منهج (النقد التوليدي)؛ الذي يعرفه البعض بأنه دراسة النص في حالته الجنينية، أي دراسة ما قبل تكوين النص، وعبوره إلى حيّز الوجود.

وقد دُرِسَت الجنينية من خلال دراسة (بيولوجية النص)، وقيل إن رحم القصيدة/المشهد يتهيأ لاستقبال موضوعات كثيرة وألفاظ كثيرة تتأثر بإمدادات ومؤثرات لا حصر لها ثقافية واجتماعية وغيرهما؛ ثم تبدأ عملية إنبات الأبيات الشعرية إلى أن تتشكل ملمحًا حسيًّا، كما في الترسيمة التالية:

فهل يمكن دراسة ما كان يجول في ذهن الشاعر، قبل إخراج النص إلى حيز الوجود؟ هل تنتمي هذه الدراسة إلى حيز المكان؟ أم تنتمي إلى حيز الزمان؟ ومن أي وجهة ندرس العلاقة بين النص والشاعر جنينيًّا؟

        وسنطبق الجنينية على نماذج من نصوص الشاعر السعودي إبراهيم أحمد الوافي، وقد صدرت له مؤخرًا نصوص بعنوان: (ما يشْبُه الخبْز فينا - حياة القصيدة)، وتظهر فيها الجنينية بأسمى معانيها؛ لأن الوافي ومنذ العنوان الفرعي، يحدد لنا ما يريد فهو يكتب لنا حياة نصه/القصيدة، مع الاتفاق بين الشعراء على أن ولادة القصيدة أمر عسر، يقول الشاعر:

كم من قائل هنا:

أنا .. أم القصيدة ؟

صمت الكلام أم كلام الصمت ؟

مع الوقت لا أعرف هل أستمع للصمت

أم أقوله ؟

هل سأكون أنا أم ما يريد قلقي ؟

ثم يصور الشاعر حالة القصيدة الجنينية عنده:

ثم يجليها الشاعر من غربتها، ويستحضرها ويضمّها إلى مدينته/ مدينة الأحلام، ويشبه ولادتها العسرة عنده بولادة النبوءة، ويجعلها في الظل إلى أن تظهر من ولادتها، ويجعل لها مكانًا يتساوى معها حالا قلقة وذات نوبة عصفورها سارح؛ لأن الشاعر يشبه الليل وهو يخطو وحيدًا، ولأنه يسكنها وهي تسكنه كما الأنثى. يقول الوافي:

هل حالة الشعر انفصامية المبدأ، فوضوية المعتقد؟

هل ينخلع الشاعر عن ذاته حينما تخلو به ويخلو بها؟

وهل يحلو له المقام معها في مدينة الحلم التي يسكنها كلما

سكنته القصيدة؟

ثم ينتقل الشاعر من مرحلة القصيدة/المدينة/الأنثى فيتساءل الشاعر مجموعة أسئلة تتعلق بالقصيدة، ولقائه معها، وثقته بها، وخيانتها له، ويربط كل هذا بنفسه التي تدّعي الشّعر، فيقول الوافي:

يا شاعري .. ليس هذا زمنك حيث تتلبّسني

ستطيع الخروج بي حينما كان ومازال الخروج إلى الشارع دخولٌ في المدينة ..!

كيف ومتى وأين تكتب القصيدة؟!

كيف ستلتقيني ؟

وهل ستثق بالساعة دائمًا؟

ماذا لو خانتكَ يومًا؟

هذه الأسئلة التي تحتملها دائمًا كلما ادّعيتَ الشعر

وعندما نتساءل عن القصيدة، نجده يبادرنا القول:

القصيدة حالٌ لا يُسألُ عنها بكيف..

وزمن لا يتوقعه إلا من لا ينتظره..

وللأنثى/القصيدة حضورها الزاهي، وقد شبه الشعراء قصائدهم بأنثى، واحتلت الأنثى مكانين الأول: مكان الإلهام للشعر، والثاني: مكان القصيدة نفسها. وأنثى الإلهام هي نفسها أنثى الشعر ولكن الأولى جنينية الطابع والثانية نبتت نباتًا حسنًا، فيقول الوافي:

حسبي أنك هبة الشعر لي !

لا تنامي وحيدة

أشعلي شمعة واقرئيني قصيدة

وأخيرًا يختم الشاعر نصه بأنه في ذات حبٍّ شهيّْ.. كان الشاعر طفل القصيدة؛ وفي صورة جنينية المشهد، يقول الوافي:

أينا يملك الآخر يا شاعري ؟!

خلقك لي أم ولادتي قبلك

تحقيقًا لمعنى الجنينية، وحين صار صديقها، حوته المدينة كما حوتها، وقد أغوت القصيدة صاحبها في إلهامها إياه وفي صمتها عن إلهامها!، يقول الوافي:

الشاعر المجنون يكذبُ ..

أو يموتُ من الهوى

والشاعر لا يريد لقصيدته أن تكون بريئة بل يريدها أن تتصف بالحديثة الجادة التي لا تكون في أجمل حالاتها إلا حينما تتلبّسها حالة من تمرّد.

 

        وسنقف الآن مع قصيدة للوافي بعنوان( وعلى المقيمين خارجها مراعاة فارق التصويت)، التي تؤكد على أنثوية القصيدة ومدنيها وغوايتها، وفي مطلعها يستدعي الشاعر مدينة (الرياض) التي ترتدي جَوْربًا للشتاء الثقيل، وتنتعلُ الصبح دفئا تقصّى ظلالَ الضحى ...

وإن البحث في جنينية النص الشعري بحث عن مراحل تسبق التكوين، بافتراض أن الكلمات المتشكلة في النص كانت مخزونة، قبل خروجها، وأن في طريقة تشكيلها آلية يمكن لنا دراستها من خلال التقديم والتأخير، أو الذكر والحذف، أو الاختيار والترتيب، وهل تمّ اختيار (الرياض/المدينة) عن قصد؟ ولماذا تم اختيار فصلها الشتوي؟ ولماذا ذكر الشاعر صباحها الدافئ؟

إننا نتحدث عن لحظة جمالية جنينية، وهي لحظة جمالية قادرة على تصوير واقع جنيني، وواقع جنيني هو مجتمع الجديد تشكله الرياض العاصمة الجديدة، فمن الجنينية سننفض غبار الواقع الجنيني، ومن الجنينية سنكتشف قدرة الشاعر على الوصف في مراحله الجنينية، تلك المراحل التي صنعت منها امرأة/صديقة وأخرى امرأة/ساحلية تحدّث الشاعر عن القصيدة، وعن الشعر وتضع معيارًا لذلك، ويحدّث الشاعر تلك المرأة المتلونة عن غيّها، فيقول لها أن تهدأ لأن:

.. القصيدةَ واقعةٌ بينَ نصْبِ وجزْم

ولأن:

الصديقة ما بين عزمِ وحزمْ ..!

ولأن:

 .. المسافة ما بين حزن الصدور

ولأن المطلوب: شِعرِ لا شعر اللِّحى فذاك يذكرنا بالمطلع الجاهلي ! ولأن المطلوب: أن نكتب بالقوافي الشعرَ من غير خارطةِ من شمال أو جنوب، ولا توجيه؛ فالخرائطُ تدمرّها الأفكار الهدّامة وهذا ما شكّله الشاعر جنينيا بقول:

عبوة ناسفةْ

وتحضر في اللغة الجنينية: الخرائط + شمس الرياض + العاصفة + المسجد + جدي + أبي + الظهر +  العصر +  الصوم + القيلولة + الدكاكين + المجالس + رجال

فتبدو تلك اللغة جنينية الطابع وتحضر لولادة جنينيها؛ كأنها تغذيه، فبيّنت لغة القصيدة تلك البدايات التي من أجلها نشأت القصيدة وهي صورة ولادة القصيدة عند الشاعر، كما بينت سهولة لغة قصيدة الشاعر وقد اختار لغة متداولة يعرفها كل من عايش الرياض وأهلها.    

ومن هنا تدرس الجنينية نتاجًا معرفيًّا متشكلا بوعي عند الشاعر؛ لأن القصيدة ومنذ لحظتها الجنينية الأولى تتشكّل لفظًا لفظًا ومعنى معنى، ويمكن أن نسمي هذا بـ (التآلف الجنيني) ويمكن أن نتحدث الآن عن (قوة) من نمطٍ خاص تلتفّ حولها مجموعة قوى تشد من أزر كل جزء من القصيدة كي تخرج (جنينًا) معافى.

يتابع الشاعر رسم صورته باعثًا الأمل وناشرًا الحبّ عبر (النوافذ)، وقد شبهها بالمرأة التي يراودها البرد عن نفسها، ويحيط بها الموت، وهي حزينة، وآمن قلبُها، وشوارع (الرياض) ما زالت شتويّة ..

ثم يستحضر الشاعر صورة مقابلة للرياض الشتوية هي صورة الرياض الصيفية؛ لتكتمل مشاهد القصيدة بلوحتين متقابلتين، فيقول:

الرياض إذا تحلقُ الشمس .. كل صيف

ويذكرك الشاعر بالصورة التي تركها فيقول عن الرياض التي كانت:

تلسعها جمرة البرد في قلبها في شتاء ..

ويستحضر الشاعر صورة موضوعية لمجتمع الرياض الذي لا بدّ من استحضاره طبقًا للحديث عن الجنينية، فواقع هو الرياض، وواقع هو برد الرياض، وواقع هو صيف الرياض، وواقع أن:

تشكو (الرياض) علينا الشتاء!

لأنها/لأننا:

بلا أصدقاء !

وتصبح الرياض المدينة/السيدة:

نصف سيدة

وقد:

كحّلت عينها بالنقابِ وراحت تؤدي صلاة الجماعةِ في بيتها .

أقرأت طفلها سورةَ الفتحِ

مدّت يداها تَعَسّسُ جوعَ النجوم

ونامت على ( تلّةٍ ) من سماء !

هكذا تستحضر الجنينية نفسها، من خلال امرأة تربي الشاعر جنينًا ما زال يتعرف إليها من جديد، والشاعر إذ يستذكر الرياض وما يريده منها، يقول عنها بأنه:

لازال مسجدها قائما، ومنابرها لم تزل أدعيةْ ،

وما علاقة هذا بجنينية المكان الذي لم يتطور، إنه قوله:

النساء اخترقنَ الغياب وجئنَ بحادثة في طريق القصيدة.

إن حضور القصيدة + النساء + الرياض حضور جنيني؛ فالقصيدة جنين ينتظر الولادة، والنساء ينتظرن الرياض الجديدة، والرياض تنتظر ولادة المكان الجديد، وهذا قول الشاعر في المشهد التالي:

الشوارع مرسومة فوق شاشات هاتف أنثى

فأحملها في يدي !

والكتابة تعويذة القادمين إليها يسومونها سوء عاقبة المبصرين

لم أجئها حنينْ

جئتها ذات حين

في مساء حزين

واحتقانٍ دفينْ

الشوارعُ كل العواميد فيها مضاءةْ

إلى أن يقول:

الرياضُ نداء الصحاري الذي طار نحو السماء .. صباحُ الإشارات مزحومة .. فارس جاءها من بقاء !

لا تكممْ يدي ..

فالجنينية التقت لفظًا ومعنى: لفظًا في الكلمات التي أراد لها الشاعر أن تنمو جنينًا ذا معنى، وعبر الشاعر عن ذلك المعنى بامرأة تنتظر الكثير من الرياض.

ثم حضرت أداة الجنينية الأولى وهي لغة السّيرة القصصية التي يرويها الوافي شعرًا، بما فيها من صور تنتمي إلى اللحظة الأولى، وتستدعي شخصية معادلة لشخصه هي شخصية النبي يوسف– عليه السلام-التي تشبه حاله، فقال:  

ليس بين رعاش الأصابع إلا صلاة أبي ماتَ من دونِ قيلولةِ حينما دلّكَ الموتُ أعضاءهُ واستوى في يديه ..!

لستُ أبكي عليه ... !

ظلُّ بيتي نمت فيه نخلةُ جدي فأطعمتُ من عذقها إخوتي ..!

خذ يدي لا تدعني ..

فالدماء التي في القميص دمائي

وما كذبوا إخوتي حين قالوا قتلناهُ ما كذبوا حين قالوا وكيف نقول له الذئبَ ما في المدينة إلا كلاب وأحياؤها كلها من نساء ..!

خذ يدي لا تدعني ..

ستبيضُّ عينُ أبي وهو يبكي

فما كنتُ يوسُفَهُ وهو يعقوبُ

لكنني كنتُ أتلو بدكَّانه سورةَ الأنبياء ..!

فمن أين ليوسف عليه السلام أن يحضر؟ وكيف راق لنا حضوره. إنها الجنينية التي ترسلنا حيث البدايات، وحيث المكان الأقدم والزمان الأقدم الذي يشبهنا، ثم يتلو ذلك تركيز على (الرياض/المدينة/المرأة/الشعر)، فيعيدها الشاعر الرياض إلى جنينيتها يوم بنيت من أجل كل الناس وما اختلفت أحياؤها باختلاف المكان والناس فعليها أن تتخذ من العدل منهجًا لها! وباستنطاقٍ جنينيّ لألفاظ الشاعر نجد:

الرياض = سيّدة = تركت ظلّها في مهبِّ المشيئةْ = يسألها الليل عن وطنٍ لا تباغض فيه.

        ثم يستحضر الشاعر لغة العدل والمساواة باستدعائه لأحياء الرياض، فيقول مستهجنا لوجود أحياء في الشمال أكثر حضارة من أحياء أخرى في الجنوب، فيقول:

كلنا في الشمال العليا

إذا كان بعض السويدي الجنوبْ

ويؤكد على جنينية الرياض في دمه؛ فلها ينتمي، وبها نشأ، وبها لمعت شاعريته، فيقول: [كلنا للرياض نحرّك عقربَ ساعتنا باتجاه شوارعها] ويختم الوافي نصه بالشّاعريّة والبياض اللذين جاءا به إلى الرياض... أسطورة الماضي وأسطورة الحاضر وأسطورة المكان وأسطورة الزمان هي الرياض.

        ويبقى للأنثى عند الوافي حضورها المميز، مع التركيز على العلاقة بين الأنثى = والشعر؛ فمن قصيدة (وحيدًا من جهة خامسة)، ومنذ المطلع يبادر الشاعر أنثاه، ويقصّ لها سيرة الشعر، وهنا تحضر الجنينية، من مهد سيرته مع الشعر، فيقول:

أبادرُ أنثى ..

أقصُّ لها سيرةَ الشعرِ

حين تكلَّمتُ في المهدِ

وتحضر الألفاظ التي تخدم ولادة الشعر عنده، إنها: الذكريات + الحنين + الخوف + البحر + أحلام + البحّارة المنهكين + الدفاتر البيضاء، وهي سيرة جنينية لولادة شعره... اقرأ هذا المشهد التصويري السيريّ:

وطوَّقتُ ذاكرتي بالحنينْ،

على هامش الياسمين

حمَلْتُ لعينيكِ

خوفَ المراكبِ من هدْأةِ البحرِ..

أحلامَ بحَّارةٍ منهكينَ

وجئتُ على دفترٍ من بياضِ السنينْ ...

لأنثى أبادرها .. فتفضُّ بكارةَ صوتي

أواعدها.. فتقصُّ عليَّ حكايةَ موتي

أودعها فتموء القصيدةُ في ركنِ قلبي

تبلِّغني أنها أنجبت بعدها ورقًا أصفرًا وخريفًا حزين!

فهل يبقى المعنى مختفيًا وراء جنينية الشعر عند الوافي، أم تظهره القوافي عنده وتفضحه الكلمات، والشاعر كعادته يبقي جنينه مختفيًا ما لم تحكه الأحداث، ولكنه قد يخفي بعض المعاني لأنه لا يريد للفتنة أن تستيقظ فيحتفظ لنفسه بما وراء المعنى، وهذا ديدن الشعر منذ أن بدأ فإنه كما الفنون كلها يقول نصف الحقيقة، وعرفنا من خلال النص أن الشاعر منزعج لما جرى في حرب العراق، لكن هذا لم ينف أن تنطلق جنينية الشعر عنده من حيث هو أنثى.

 

 

تعليقات