الاتّجاه الشّعريّ المُلتزم "الاشتراكيّة في الشّعر العربيّ المعاصر" البدايات – الأهداف – المستقبل من محاضراتي لطلبة الدكتوراه لمقرّر: (اتّجاهات الشّعر المعاصر)

الاتّجاه الشّعريّ المُلتزم

"الاشتراكيّة في الشّعر العربيّ المعاصر"

البدايات – الأهداف – المستقبل

من محاضراتي لطلبة الدكتوراه

لمقرّر:

(اتّجاهات الشّعر المعاصر)

الأسئلة يجاب عنها في نهاية المحاضرة


 البدايات

(الشعر والأحزاب العربية):

لقد أدرك الشعراء أن أجمل الكلمات تبقى كلمات جميلة ولا تتحول إلى فعل جميل وواقع جديد ومستقبل مشرق إلاّ من خلال الانخراط في الأحزاب الثورية والعمل في إطارها من أجل النهوض بالشعب للمواجهة الحاسمة ضد قوى التخلف والرجعية المحلية والعالمية.

التحام الفن بالأفكار الثورية:

أعلنت بعض الأنظمة حربها ضد الشعراء الملتزمين..

واستخدمت في تلك المعركة وما تزال تستخدم كل ما ترسب من عفن التاريخ وما ابتكرته فقاسات التزييف والتضليل الحديثة.. وأخافت تلك الحملة الرهيبة بعض من انخرطوا في النضال فأحجموا وهي ما تزال تخيف أمثالهم.. ولكنها زادت من آمنوا بشعبهم والتحموا بمصيره قوة وصلابة إرادتهم فتألقوا كتاباً وشعراء وفنانين ومناضلين وأصبح بعضهم أعلامًا للحركة الثورية وجزءًا من لحمها ومن دمها.

 

شاعر مناضل(ثوري/ ملتزم):

 

كان معين بسيسو واحدًا من أولئك الذين رفعوا راية النضال ورفعوا فن الشعر إلى المستوى الجدير بخدمة فن السياسة التي هي، بمعناها النبيل السامي، أم الفن وأم العلوم قاطبة، فهي فن وعلم قيادة الشعوب على دروب مسيرة تقدمها التاريخي، هي فن وعلم استراتيجيا وتكتيك النضال المجيد من أجل إخراج البشرية من ليل عبوديتها إلى فجر إنسانيتها الحقة، وصباح تاريخها الأصيل.

 

مدارس شعرية جديدة ضد مدرسة الالتزام:

 

كان على معين بسيسو وذلك الرعيل من الشعراء أن يصمد للضربات التي تكال له من كل جانب وأن يُحسّن أدواته الفنية دون أن تتاح له الفرصة لالتقاط الأنفاس. وكانت مسألة حل معادلة جماهيرية الفن وفنية الفن وأصالته إحدى أعقد المسائل التي ينبغي حلها خلال احتدام المعركة التي يستخدم فيها العدو كل ساعة أصنافاً جديدة من الأسلحة ويدفع إلى سوق الفن كل يوم صرعة جديدة ويخلق كل شهر تقريباً مدرسة جديدة.

 

ولو تصفحنا تاريخ السنوات الخمسين الأخيرة لرأيناها تضم شواهد تكاد تشكل غابة ضخمة لقبور "المدارس" و "الصرعات" و "الطرق الجديدة" التي قُذفَ بها إلى ساحة المعركة الشعرية ضد الواقعية (والاشتراكية أساسها) وضد الالتزام والملتزمين.

 

مسيرة الأدب الملتزم في العصر الحديث:

 

لم تكن مسيرة الأدب الملتزم تسير دائماً على مايرام. فقد أصيبت الحركة الأدبية بجرثوم "مرض الطفولة" اليسارية الذي كثيراً ما أصاب الحركة السياسية، وصدرت عن الكثيرين من ممثليها ردود فعل متشجنة أحياناً أو صدرت عنهم أحكام تطبيقية ميكانيكية.

 

ووجه الإعلام المعادي تركيزه ضد محتوى الأدب التقدمي أساساً ورفعت لافتة "الشعارات السياسية ليست أدباً". ولم يكن أحد قد قال إن الشعارات السياسية أدب، ومع ذلك عزفوا على هذا الوتر بدهاء مستغلين بعض الأعمال غير الناضجة والرديئة فنياً، والفن الرديء ليس فناً وليس سياسة، كي يبعدوا الكتاب والشعراء والفنانين الملتزمين عن السياسة التقدمية تحت لافتة محاربة الشعارات في الأدب أو محاربة أدب الشعارات.

 

لقد استخدموا كل ما يشوّه مقولات الواقعية الاشتراكية الأساسية وكان سلاحهم الأول هو قلب الحقائق رأساً على عقب وتسطيح المقولات التي لا تبدو حقيقتها بسهولة على سطحها.

 

إن  الشعارات السياسية التقدمية هي تجسيد لمطامح شعوب بأسرها خلال مراحل تاريخية قد تطول وقد تقصر، وإنه لمما يشّرف الأدب والفن العظيمين حقاً أن يجسدا فنياً بعض أبعاد الشعارات السياسية التقدمية لعصر من العصور. فتم تجسيد شعار "يسقط الاستعباد" بأعمال فنية عظيمة وتلك مسألة شرف كبرى لكل فنان أصيل. ولأن صور الاستعباد لاحدود لتجليها في العلاقات القائمة على الاستعباد فلن يقع الفن في التكرار أو الرتابة. أما أن يكتفي الشاعر أو الكاتب أو الفنان بترديد شعار "يسقط الاستعباد" فذلك ليس من الفن في شيء. فالمهم هو تجسيد الشعار في عمل فني، وإعادة الشعار إلى نبض القلوب التي جعلته راية لها، وهدفاً لمسيرتها على درب إنسانيتها، ولخصت به تطلعاتها.

 

الأدب والثورة(ثورة بين الاشتراكية والرأسمالية):

 

هل يضير رواية شولخوف العظيمة "الدون الهادئ" كونها كتبت، على سبيل المثال، تحت شعار "دافعوا عن الوطن الاشتراكي"؟

 

وهل يضير أعمال معين بسيسو وسواه من الشعراء والكتاب التقدميين كونها كتبت تحت شعارات النضال في سبيل استرجاع الوطن وتحرير الإنسان من الاستثمار الوحشي الذي يسلطه عليه لصوص العصر من رأسماليين وتجار كبار وسماسرة وطفيليين؟

 

لقد تعرضت نظرية الانعكاس للكثير الكثير من محاولات التشويه والتسطيح والابتذال. وكان في مواقف المفترين عليها الكثير من الخبث والحقد والقليل من المنطق أو الفهم. وكانوا في أحيان كثيرة يعلنون فرحهم واعتدادهم بكون أدب الماجنين وحتى الداعرين من الكتاب والشعراء انعكاساً لحياتهم الشخصية، وكانوا يلحون على عكس هذه الجوانب وحدها من حياة المبدعين.. أما حين كان المناضلون الملتزمون بقضايا شعوبهم الأساسية يعكسون التزامهم الذي هو شأن من شؤون حياتهم الشخصية أيضاً في مايبدعون من أدب وفن، فكانت جميع أبواق المفترين ترفع عقيرتها منددة أو مشككة أو مشوهة.

 

التطور والأهداف:

 

كان على جيل معين بسيسو أن يقود المظاهرات الجماهيرية وأن يصمد لسياط الجلادين وعتمة الزنزانات ورطوبتها أو أن يتوارى مضللاً المخبرين وأن يكافح ضد كل سيول القذارات الفكرية والفنية، وأن يصوغ الكلمة المناضلة المبدعة. كانت الشعارات الكبرى لحماً من لحمهم ودماً من دمهم وكانت هي قضيتهم العامة وهي حياتهم الخاصة أيضاً. وقد سعوا جاهدين لتجسيد تلك الشعارات أدباً حياً وفناً أصيلاً مشرقاً وقد أفلحوا في أحايين غير قليلة.

 

وكم كانت ستبدو شاحبة لوحة ألوان أدب وفن تلك الفترة لو لم تتوهج عليها أسماء ذلك الرعيل من الكتاب والشعراء والفنانين الملتزمين التقدميين!

 

وثمة الآن من يحاولون الخروج على مقولات منهج الواقعية الاشتراكية بحجة أن أسسه وأولياته مفهومة وواضحة ولاحاجة لتكرارها أو لذكرها. صحيح أن تكرار البدهيات والأسس الأولية قد لايكون مفيداً لمثقف ومطلع، ولكن الخروج على منطق تلك البدهيات والأسس هو أمر ضار، دون ريب، وغير مقبول.

 

إن مسألة الالتزام قضية مصيرية، قضية تقدم أولا تقدم، وليست مسألة ترف فكري أو موضوع جدال للجدال. وقد أسهم معين بسيسو بسلوكه النضالي وبإبداعه الفني في خدمة هذه القضية وحملها على دروب الكفاح العسيرة... من ساحات غزة إلى السجون والمنافي، إلى معركة بيروت المجيدة وحتى آخر لحظة من حياته. أجل كانت حياته كلها في غمار المعركة.. وكان همه أن تستمر المعركة حتى "يزول عهد الموت".

 

أنا إن سقطت فخذ مكاني يارفيقي في الكفاح

 

واحمل سلاحي لايخفك دمي يسيل من السلاح

 

وكان على معين وأترابه تمهيد التربة للثورة وإقامة الأساسات. وتمهيد التربة وسط كل تلك الأشواك من الأمور الشاقة:

 

إنني أكتب الحقيقة لكن


 

ثورة الحق في بلادي كفر


وهو يرى وطن الكادحين يجلد ويشنق فيهتف:


أخي من خلال حبال السياط


 

ومن حلقات القيود الثقال


تطلع إلى وطن الكادحين


 

وقد شنقوه بسود الحبال


 

ويثور معين مع الثائرين للحق.. والثورة للحق لاتقوم على الأخلاق القديمة، أخلاق الطغاة وأخلاق الخانعين وإنما تحتاج إلى أخلاق بديلة وهي أيضاً تحتاج إلى عواطف جديدة وأفكار جديدة.. وإذا كان الغزو الخارجي قد جعله يهتف:

 

قد اقبلوا فلا مساومة

 

المجد للمقاومة

 

لراية الإصرار شاهقة

 

للموجة الحمراء من صيحاتنا المعلقة

 

على الشوارع الممزقة.

 

فإنه لم ينس المعركة الداخلية الكبرى... فهو يعيش في الوطن الذي تحول إلى سجن كبير، ويرى الوطن وهو يذوق صنوف العذاب لأنه يصف مايرى ولأنه يقاوم مايرى ويعلن أن قلب المقاومة العنيدة لن يكف عن الخفقان، وأن كل شهيد من الأنصار:

 

هو في الظلام جناح ريح

 

ودم يفوح

 

ويد من الكلمات في الصمت الرهيب

 

تنمو

 

فيا أجراس أزهار المصير

 

دقي إلى يده المطرزة الشرار

 

على الظلام، على الجدار.

 

وهو يعلن:

 

فلقد مضى عصر القصائد ببغاوات تطير

 

في روضة الملك السعيد

 

فالشرق في قمم النهار

 

وفي الساحات، في الزنزانات تبقى "فلسطين في القلب":

 

استمعوا لي،

 

اسمعني ياوطني

 

فالآن خريف الأغلال يولي

 

والآن سأحرق ظلي

 

كي لاأتمدد في ظلي

 

صمتاً، صمتاً، ياحملة أبواق

 

-الخفاش الخشبي-

 

يا أكلة قربان العجل الذهبي

 

صمتاً، ولترفع بيرقها

 

العاصفة السرية، والبرق السري

 

ومعين الشاعر الثائر يحلم بأن ابنته:

 

أنا أحلم أن نمشي

 

كفك شعلة برق،

 

في كفي، شعلة أزهار

 

تحت الأمطار.

 

ثم يخاطب وطنه:

 

ألف شتاء قد مر ومازال

 

مصلوبك ياوطني يحلم

 

لو تلمس قدماه

 

الأرض النائية كنجم.

 

وهو يناضل ويهدي إحدى قصائده "إلى الذين يقاتلون ولايعلقون الأجراس في جراحهم" ويبصق في وجوه المتخاذلين "الشاعر الذي رمى على المقابر السلاح، وعاد يلقي الشوك في عيون ملهميه، يلعق المداد... " ويرى معين الطغاة اسطورة تخبئ شمس الإنسان:

 

"شمسك في أضلع غيلان الثلج

 

اطلعها بالفأس.."

 

وهو إذ يستفيد من التراث العربي والإنساني ومن الفكر الثوري المعاصر يرسم لنا بشعره لوحة كبيرة لقطاعات واسعة من المعركة التاريخية الدائرة بين الفقراء ومصاصي الدم ويضيف إلى الخريطة نهراً جديداً: "ليس تذكره الخرائط والوثائق" هو نهر دم الأبطال النازف في السجون ودم الشهداء.

 

 

 

·         المحاضرة ملخصة من كتاب ميخائيل عيد: وجوه ومرايا شيء من السيرة وشيء من النقد، دراســـــــــــة، اتحاد الكتاب العرب ، دمشق، 1999م.

 

 

 

أسئلة للتقييم:

 

1-   ما الأسباب التي رافقت ظهور شعر الالتزام عند شعراء العرب؟

 

2-   هل انتقل صراع الاشتراكية والرأسمالية للشعر العربي المعاصر؟

 

3-   ما الأثر الذي قدمه معين بسيسو وجيله  من شعراء الالتزام على الثورة ضد التخاذل والظلم ؟

 

4-   هل ما زال للشعر أثره، أم انتقل إلى النثر الأدبي الحديث (رواية وقصة ومقال)؟ علل؟

 

تعليقات