التّماثل والعَنْونة عند الشاعر حسن الزهراني – السعودية

التّماثل والعَنْونة

عند الشاعر حسن الزهراني – السعودية




لا يوجد حد فاصل تماما بين اختيار نمط عنوان دون آخر، إنما يحاول الناقد ترجيح نمط على آخر؛ رغبة في استثمار تلك المعرفة لتحليل النص الشعري الحديث.

ومن الدواوين التي تستحق الوقوف على عنونة قصائدها ديوان " تماثل" للشاعر (حسن محمد الزهراني) الصادر بطبعته الثانية 2010م. وسنقف مع ثلاثة أنماط تظهر جلية في طرق توظيف إدراك الشاعر لما يعنون وأثر ذلك في تلقي النص وتحليله.
وتختلط القصيدة التالية بين دراستها تحت الموت عنوانا، أو الموت سيرة، وهي من حكايات الموت المؤلمة التي يرويها الزهراني بإحساس جذاب، حكاية لطفل ضاع بين الجبال ويعثر عليه في اليوم الخامس من ضياعه ميتًا !

 

فيعنون الزهراني القصيدة بـ (مساء الموت) / 63، ويفتتحها بقوله:

مساء الموت يا أمي ..

مساء الموت يا أبتِ..

مساء الموت يا قومي...

ثم تترى المساءات في كل مقطع، ويصف لنا الطفل كيف كان الموت يرصد خطوته الحيرى، ويروي لنا الطفل إطفاء الموت لمشكاته، حرقه لصبره، ويتحول كل ما هو حول الطفل من زهور وليل وأصوات إلى موت. واقرأ ماذا قال الطفل لأمه/ 64:

أما تدرين

أن الموت مذ فارقت صدرك

كان يرصدني..

ويرصد الشاعر لحظات عاشها الطفل مع الموت / 64 :

أما تدرين

أن الموت حاصرني..

أما تدرين

أن الموت يا أمي

يقهقه ساخرا مني

إذا أرسلتُ في ألم نداءاتي

ثم ينقل " مساء الموت" لأبيه، ويتساءل / 65 - 66 :

لماذا يا أبي لم

تقتف بحنانك المعهود

في كل الدروب

بلهفة أثري؟...

ظننتك سوف تشعل ألف قنديل

من الآمال يطفئ ضوؤها كدري ..

ولكني فجعتُ بوحدتي .. وعاد بحسرة بصري.



وتطول القصيدة جدا في مشاهد تتحدث عن مساءات الموت / 66 – 67 ، ويخرج الشاعر من ذاته إلى ذات الطفل متسائلا أين أبوه، وأين النخوة العربية عند قومه، وقد نامت طوال الليل أعينهم، فيا ويحهم، سيبقى موتي وصمة سوداء على جبينهم. ثم يتحدث الشاعر على لسان الطفل الضحية من أول يوم إلى يوم موته، ففي اليوم الأول أجهش بالبكاء، وصرخ بكل صوته ينادي، راكضًا ليسبق خوفه، ولعل فوح دمه يجتاح قلب أمه الحاني، ويتساءل" أيعقل أن قلبك – صادق الإحساس – ينساني ؟ "، وفي اليوم الثاني يمم الطفل نحو الشرق نحو خيط الفجر، وناحت عليه ألف حمامة، وتساءل " كيف أفر يا أمي ؟ إن الموت موتان " وهكذا حتى مات الطفل في ذات مساء، وصار جثة تتسابق الغربان على عينه وتفقأها ويقول لأمه " سلي أبيت : ألم يفزعه من طول المنام العذب . موتي " ثم يقول " فليسأل الغربان عن خدي وعن أنفي وعن شفتي " / 66 - 76 ويختم الشاعر القصيدة بقوله / 76 :


ضعوا لي من عظام جحافل الغربان

تمثالا يخلد بينكم رسمي ...

ومن عناوين القناع في عند الشاعر عنوان قصيدته " واو الجماعة" / 33، وهي قصيدة قناعية من عنوانها إلى أصغر جزء فيها، وتخبئ في كل جزء منها نصًا آخر غير ذاك الظاهر أمامنا..


فماذا تخبئ هذه الواو، انظر قوله / 37 :

واو

لها دوامة عنقاء

تأكل ما تأتي عليه

من الفسائل

وتلك الفقرة كانت أول ظهور "الواو" في القصيدة. ثم هذه الواو إذا أمرت / 38 :

فإن السائرين أمامها

سيطأطئون رؤوسهم

وتقول ألسنة الغباء

لأمرها

سمعًا وطاعة ...

ويسير خلف الواو قطيع مبتلى ويتأذى منها في كل ساعة، ولها حفرة من اللؤم وتمد عين الشر حول قطيعها، وتبيع بضائعها في سوق الخيانة، ثم يتعجب من قطيعها الشاعر / 39:


عجبًا لأمر

قطيع تلك الواو

كيف أطاعها

وأسودُه هزت

لها أذنابها ذلا..

فمن هي الواو، ومن جماعتها ؟ ومن يأمرها ؟ ولماذا تطيع ؟ إنها فكرة من الشاعر توحي بشأن كل من يطع على فساد، وأن طاعته ستلحق به الأذى والذل. وينهي الشاعر قصيدته بمقطع مليء بالحيوية والأبعاد الرمزية، فيقول :


يا سيبويه

أما وجدت لنا

بديلا في كنوز

النحو

عن

واو الجماعة ؟ ؟

والإشارة لسيبويه إشارة مبدعة للعودة إلى النحو، وقد أعادنا الشاعر بذكاء؛ ليمسح من ذاكرتك ما كنت تتأمل في أنك توصلت إليه، ولكن القارئ الناقد يقرأ النص من أوله لآخره ومن آخره لأوله، وأحسن الشاعر إذ انتهى بالعنوان لنبدأ من حيث انتهى ونقرأ القصيدة مرة أخرى. فنعرف أن " واو الجماعة " أبعد ما تكون عن " واو " سيبويه النحوية .

 

ومن العنوانات المكثفة جدًا عند الزهراني عنوان " السامريّ" / 111، والقصيدة طويلة من صفحة 111 – 120 في الديوان المشار إليه، وتستثمر القصيدة معرفة القراء بقصة اليهود والسامري المذكور في القرآن الكريم، والقصة كاملة في سورة الأعراف تبدأ من قوله عز وجل : " واتخذ قوم موسى من بعده عجلا جسدًا له خوار... "، وتنتهي بقول تعالى : " للذين هم لربهم يرهبون" / الأعراف 148 – 154. ولفظة (سامري) وردت في سورة طه وتبدأ من قوله تعالى : " وما أعجلك عن قومك يا موسى.. "، و تنتهي بقوله تعالى : " وسع كل شيء علمًا" / طه 83 - 98. فكيف استثمر الزهراني القصة ؟ وكيف كثفها في لفظة واحدة هي (السامري) ؟ وكيف وظف العنوان المكثف هذا في بسط ما يدور في حاضر العرب الآن ؟


نقرأ في المطلع قوله / 111:

إنا هنا – إنا هنا

متقابلون على موائد صمتنا

نذرو حصاد عنائنا

والقصيدة تنتقد صمت العرب تجاه ذلهم، ورضاهم أن يعيشوا " في بحر الغباء"، وهم يشمون "رائحة الدماء"، وقرصان العدو "يخطف كنز" هيبتهم، "والشهداء ينتظرون فوق الأرصفة... "وقد تشكلت ألحان .. الإرهاب في أوتار" خيبتهم، وما زالوا يرددون: " هل من مزيد؟ هل من مزيد؟" / 111.


ويحضر السامري في قول الشاعر / 112 :

يا سامري العصر

كيف قبضت

من أثر الخيانة قبضة

وصنعت عجلا

من حلي ولائنا

عجلا فريدًا

لا تشابهه العجول !

إنه توظيف لقصة السامري الواردة في سورة طه من القرآن الكريم، بطريقة تستحضر حالنا وهواننا على أنفسنا في هذه الأيام. ويستمر (حسن الزهراني) بتسجيل التفاتة وأخرى وهو يصنع تقابلا بين القصة الأصلية وما يناسبها من أحداث في عالمنا الحالي، كما استثمر لفظة الشاعر الفلسطيني (محمود درويش) في نصه الشهير (عابرون في كلام عابر)؛ لأنها تتناسب مع قصة السامريّ، فقال :


العابرون

على سراط الريب

ماتت خيفة

أرواحهم

ويستحضر الشاعر كل المصائب التي أسهم اليهود بصنعها في العالم.. مع ما يحمله للعرب من تقصير واقتناع بالذل، ومن تلك المصائب مصيبة (بغداد الرشيد)، و(البلقان)، و(كشمير).. ثم يخاطب "طائر الأحلام" بلفتة ينبه القارئ إلى ضرورة أن يبقى الحلم مستيقظًا في ذهن كل مسلم، وعلى الحلم ألا يموت، فيقول / 117:


يا طائر الأحلام

صغني ريشة بيضاء

تشرب من (دواة) الدهر

شعرًا

عن هزائمنا

وشطرًا عن عزائمنا

وعن آمالنا

ثم يخاطب شهداء الأمة وهم "الصاعدون إلى السماء / سلالمًا" وقد تزودوا من دمع عينيه الصافي "كؤوسًا من نمير الصبر/ كيما يعبرون (بها) إلى مقاعد صدقهم /في جنة الفردوس" وقد اقتبست عينه من الشهداء بعض ضيائهم فصارت شهبًا من الإلهام ترجم كل أعداء الصفاء وترسم الفجر الجديد / 118. والإشارة إلى أهمية ما يكتبه الشاعر في بعث الهمم نحو تخليص الأمة من اليهود ومن ضعفها وذلها.

 

ثم يبشر الشعر الأمة بصغار الأقصى وكباره الذين بدت بوجوههم التباشير التي طال انتظار القدس لها حول ضفافها، كما يقول / 120 :


بيض التباشير

التي طال انتظار القدس

حول ضفافها الخضراء

يرتقب السرور لنا

وللأعداء يرتقب الوعيد.



تعليقات

إرسال تعليق