قُرمزي بلون قلبي ...لـ: نادية الفواز " قراءة في التلقي والتأويل للمجموعة.. من عماد الخطيب

 

قُرمزيّ بلون قلبي ...لـ: نادية الفواز

" قراءة في التلقي والتأويل لمجموعة ... تكتب بحروف من حبر سريّ"



نادية فواز الفواز: قاصة من فلسطين، تعمل محررة في جريدة الوطن السعودية، لها مجموعتان قصصيتنا الركض في مساحات الحزن، و أنا . ومجموعتها القصصية ( قرمزي بلون قلبي) ، من منشورات الدار الوطنية الجديدة، الخبر، المملكة العربية السعودية، ط(1)، 2009م.






حديث في النظرية :

التأويل في النقد يعني (متابعة حركة المعنى في النص نحو المرجع، و إظهار التوسطات الجديدة التي أقامها الخطاب بين الإنسان و العالم). و يدرس الناقد من خلال التأويل 1- العلامة،2- المدلول،3- الاستعارة،4- الرمز،5- النظام المكتوب . والتأويل هو من أثر التفكيكية والسيميائية في النقد، وهو مصطلح جديد اقترب من العام 1970 م، مع وجود إرهاصات له قديمة عند الشكلانيين الروس، وتعد فلسفته وجه من وجوه الفلسفة الظواهرية.. والنقد القائم على التأويل ذو طبيعة مزدوجة، يكشف الناقد خلاله عن معنى جديد للنص، أي أن النصوص تحتاج دائما للتأويل، و لا تتوقف عند حد يمنع تأويلها ! ومن النقاد الذين درسوا التأويلية من واقع تطبيقي ليو سبيتزر، وله نظريات لسانية خاضعة لبعض المناهج الوصفية. وهانز روبرت ياوس، أوّل بالطابع الجمالي للنص، مع الفهم المعاصر، الذي تبعثه القراءة التأويلية ، فيعتزم الناقد المؤول ( تقديم التجسيد الملموس لدلالية النص ) . وميشال ريفايتر، يؤول بالقارئ الخارق، الواسع الاطلاع، القادر على تسجيل كل انطباع جمالي بدقة ووعي لإيجاد بنية فعالة جديدة في النص . وقد يلتقي التأويل مع التلقي، فكلاهما يستخدم ( أفق القراءة = التوقع = الانتظار ) .. و لقاء آخر في سيميائيات التلقي من خلال : تأويل مقصد المؤلف. وتأويل مقصد النص. وتأويل مقصد القارئ.

 

و هكذا يكون التأويل الدلالي هو نتيجة السيرورة التي يضفي بها المرسل إليه دلالة ما على التجلي الخطي للنص الذي هو بصدد تحليله .. ولا يخضع للتأويل بأنواعه سوى النص المتمتع بالوظيفة الجمالية.. وتكون أسس التأويل النقدية هي: تجاوز الحدود التي تفرضها الجملة. والاعتراف بالتماسك النصي. وبلورة مفهوم القراءة. واختيار استراتيجية تأويلية. وإدراك الشكل المكتمل للنص.. وعده مستقلا عن مؤلفه تماما . وقراءة النص قراءة ثانية جديدة. والإجابة على الأسئلة التي لم تجب خلال القراءة الأولى. والقراءة لا يجب أن تكون من البداية ، فربما تكون من الوسط أو النهاية. وفي القراءة الثالثة يتم توظيف المعنى الموضوعي الذي تم استيعابه في القراءتين الأولى و الثانية..و هذا المعنى هو الفرضية الأولى للتأويل . كذلك يشكل النص وجودا موضوعيا و ليس وجودا ذاتيا مهما بلغت أهميته.

 

وختاما فلا قيمة للعمل إلا في أثناء قراءته = القراءة تفهم تركيب النص . والنص الأدبي مفتوح يسمح بتعدد القراءات = التمثلات ممكنة على صعيد المستوى الدلالي . ولا ضرورة للإطار التاريخي لقراءة النص = التركيز على معطيات النص. وينقسم القراء – في منهجنا هنا - إلى ثلاثة : أ- القارئ العادي، ب- الناقد، ج-المهتم = عالم تجربة المتلقي . ولا يعترف منهجنا بوجود لقراءة محايدة = ظاهرة التداعي الموجودة في علم النفس، التي توسع الإضافات الممكنة من النص لعالم تجربة المتلقي . ويهتم منهجنا بمصطلح " أفق التوقع " أو " الانتباه " فالنص وسيط تنمو خلاله توقعات لبعض الدلالات و المعاني، و هو ما يصنعه القارئ المنتج الناقد = إعادة بناء عملية تلقي نص من النصوص اللغوية بعدها سيرورة حركية يلزم أثناءها المتلقي. ويكون الناقد الضمني، بصفته تعبيرا عن المهمة التي ينهض بها النص، هو حركة لأن يلتقي ذاك الناقد الضمني مع الفكرة التجريدية التي يقدمها القارئ الفعلي، أو بالأحرى القوة المشروطة الكامنة خلف نوع الجهد الذي يبذله هذا القارئ في قبوله القيام بالمهمة المنوطة به. وإن تحليل جماليات التلقي تعتمد – كما يقول إيزر – على: ( العلاقة الجدلية بين القارئ والنص من منطلق التفاعل فيما بينهما. وعلى الرغم من أن جماليات التلقي تدور حول النص فإنها سميت بذلك لأنها تلعب دورا مهما في تحريك قوى الإدراك والخيال للقارئ فتدفعه إلى أن يعدل من وجهات نظره أو ربما يغيرها. وهذه المقاربة تدعو إلى أن يستخدم مصطلح جماليات استجابة القارئ بدلا من مصطلح جماليات التلقي؛ ففي رأيه أن النص الأدبي لا يستطيع إنتاج الاستجابة إلا في حالة قراءته فقط، ويكاد يكون من المستحيل وصف هذه الاستجابة دون تحليل عملية القراءة. فالقراءة، لذلك، تعد النقطة المحورية لدراسة النص، لأنها تحرك كل سلسلة الأنشطة المعتمدة في بنية النص، كما تحرك القدرات الأساسية المحددة للإنسان، فالتأثيرات والاستجابات ليست من خواص النص وحده، ولا من خواص القارئ وحده؛ ذلك أن النص يحدث تأثيرا أساسيا خلال عملية القراءة التي يتفاعل فيها القارئ والنص) .

 

وختاما فيشكل القطبان (النص والقارئ) في تفاعلهما معا أرضية يمكن أن يستند إليها بناء نظرية الاتصال الأدبية؛ إذ من المفترض أن العمل الأدبي شكل من أشكال الاتصال، لأنه يحتك بالعالم من جهة، وبالبناء الاجتماعي والأدب القائم من جهة أخرى. ومهمة الاتصال هذه – كما يراها إيرز – هي المهمة الحيوية لكل المفاهيم التي يندرج تحتها الناقد الضمني؛ ذلك أن التلقي يعد عنده جزءا من نظرية أكبر هي نظرية الاتصال. فمهمة الناقد الضمني إذن هي نسج خيط الاتصال وهو ما يقوم به تحليلنا.

 

حديث في التطبيق :

 

-1-

 

لا أخطئ وأنا أنقل عنوان المجموعة ( قرمزي بلون قلبي ) إلى ( قرمزيات بلون قلبي )؛ بل قصدت جمعها إلى ( قرمزيات ) لأنها هي كذلك.. فلم أجد قرمزيا واحدا بل قرمزيات عديدة؛ ذلك أنني أمام طوفان من الأحاسيس ولغة ترتفع عن الابتذال والامتهان في حرفية قلما نجدها مع موجة السقوط والدونية في الألفاظ والمعاني – وهي تغزو روايات وقصص هذا الجيل المسكين - التي تنهال علينا اليوم من كل حجر زاوية ! والحقيقة التي يجب أن نقف أمامها هي قدرة الفواز على اللعب باللفظة والعبارة والاستعارة في إطار تعرف مبتغاه وهو التلويح بمشكلة رومانسية من هنا أو من هناك. وكلمة مشكلة تحولت عندها إلى قرمزية تلتهب مشاعر القارئ – ذكرا كان أو أنثى – فكتبت عن التائبة والعابدة والراهبة والخاشعة والتابعة والمتسلية والصائمة والمتشائمة والعجولة والعالمة والخائبة والفاتنة والرائعة و.. إلى أن جمعت كل أولئك في المتربعة على عرش الهوى و( هي ) ذات قرمزية كالشفتين بل كذات القلب الذي لا ينتمي لشيء إلا أنه قلب عاشقة! إنها ذات الفواز ومن غيرها.. إلا أنني ألحظ ملحظين لم يسيرا على خطى الفواز كما أرادت، هما الإطالة التي مللت القارئ وشتت أفكاره، وكثرة تعدد الصور ذاتها دون التفاف عن المركز المنطقي حول العقل بها؛ فصور ( الصمت ) و ( المتر المربع ) و ( الزاوية ) صور متكررة دون الحاجة لتكرارها وتكاد تكون أغلب القصص – إن لم يكن كلها – تحكي عن الصمت الذي لجمت به الفتاة ولم تستطع أن تتفلت منه رغم محاولتها وتلذذها بهكذا ( صمت) عاشت خلاله فترة لا تُنسى اعتقدت أنها هي (الحب) الذي تبحث عنه ! ومن هنا جاءت تسمية مقالتي هذه.

 

 

 

-2-

 

إن قارئ المجموعة القصصية (قرمزي بلون قلبي) ليدهش بتلك اللغة الصامتة التي كتبت بحروف لوّنها (الحب). وليدهش بالصمت المكتوب ( كيف كتب ! ) وانكشفت كل حروفه ( رغم أنه مكتوب بحروف من حبر سريّ) صنعته الفواز . وليدهش من لون الحب الذي توحد من ألوان عدة ساد (الصمت) فيها لحظات السرد. وليدهش من حلم صامت في حب لم يتجاوز لمسة ذكرى بعد ! وليدهش من عودة عاشقة لطفولة أيام تنظر من مشكاة يعمرها الحب . وليدهش مما حذفته سطور الفواز وكانت ترمز من حذفه أن مسافة خطوات بين العشاق - مهما كانت- تتمثلها طاولة المقهى أو شباك للغرفة أو شارع مطار.. لا تعني سوى ( متر واحد مربع فقط ) !وليدهش من نص حاضر ونصوص أكثر كانت غائبة.. وأخيرا ليدهش من قوة أسطورة تخفي الكلمات عن الكلمات.

 

-3-

 

قرمزي بلون قلبي : حلم مرسوم على شكل قلب وسهم جارح يقلب كل مناخات الذكريات / 10 / 84/85/86/ 88/ 89. وعبث بالحدائق والطرقات / 11 .. والضحك كثيرا بعد أن نعيث الفساد /11.. وصور مكررة من لحظات الحب : منها صورة ذرات العاشق في كل حالاته /12/36/، وحروف مشتعلة /13، و يدان تتلونان بلون آخر ومس آخر / 16... و صمت ( هو لعبة) هو صمت كثير/ كئيب/ جارح /سعيد.. تارة تطلبه لحظات من عشق نادر! وتارة يحمل عبر موكب جنائزي ماتت فيه أفكار من ذات العشق النادر، هو صمت تتناقض في وصفه كل لغات الدنيا وتجمع أشتاته كل حكايات الفواز.. بل تتجاوز الفواز ذلك وهي تستعير الصمت لكل ما يحيط بالقصص من موجودات كالنافذة والبيت والنخلة والطريق والغرفة وغير ذلك / 20/23/ 32/34/38/42/44/52/63/64/78/87/ 114/120/122/ 129/ 130/ 134/139/ 142. وحال الحب الصامت يقول في مجمل قصص الفواز أنه يقع في حبِّها، ويرسل لها مائة عين مجموعة في جسم دائري واحد لمراقبتها، وهي تتحوّل إلى عجلة، بعد أن تعرف بحبِّه لها، وتستطيع أن تنيمه بسرد قصصها، وأن تضع عيونه المائة في ذيل طاووس، فتصنع طائرها المفضّل من عيونه.. اتفقنا. أبحرنا معاً. كوّنا شجرة لنا. ترجمنا كلّ المصطلحات. صار لنا معجم أساطير خاص جداّ. لم يكن مرتباً بالحروف الهجائية. رتبناه حسب اهتماماتنا. كنّا نحكي إذا لزم الكلام، ونصمت دائماً. كان صمتنا حكاية أخرى. هَبْ أننا لم نحك حرفاً: "كانت الدنيا تحكي عَنَّا". نشتاق للّقيا شَوْقَ دخولِ زمن ما قبل الوجود للوجود. فجعلنا أسماء لما حَوْلنا غير تلك الأسماء. كانت تقول لي دائماً: أسطورة حبِّنا فوقطبيعية، إنها بطولة ثقافية مغرية، أعتز بها، وبطفولتي معك، مع أنَّ الفن الذي نقوم به إنما هو نتيجة خارجة عن سلطاننا، تنجم عن مزاحنا ونشاطاتنا، أو أنها نتيجة المصادفة من حيث الأصل، إنها ظواهر واختراعات طبيعية مفيدة، أو مساعِدة للبشر.ونضحك، نضحك كثيراً، عمَّا نسمع من قصص الحبّ. بل نضحك عمَّا يعقب تلك القصص من فشل! / 11.

 

وركن مكان (في طاولة أو شارع أو سرير أو مكتبة أو طرقات) ما زال يحس اللذة مع كل حكاية عشق تنمو في زاوية منه وتتطور ولا تنهي اللحظات الحلوة إلا بالزاوية التي منها كانت قد انطلقت وهي لا تتعدى (ذات المتر المربع).. / 23/29/ 35/ 40/65 / 79/ 117 /118/120/ 129/139/ 141 . وألوان قرمزية وتركوازية وفيروزية ووردية تحمل لحظات لا تنسى ( في وردة أو كرز أو شفتين) /27 / 74 / 91 .. وأصابع ترسم همسة ذكرى في خصلة شعر تبكي مذ ذهبت تلك الأيدي وتوارت خلف مساحات لا خط نهاية يرسم عنوان حكايتها 43/47/139 ..

 

-4-

 

وللتحليل بـ : (فن القراءة) نبدأ من قول القاصة " لقد بدأت أشعر بلذة قسماتي الطينية على سبورتي البيضاء التي تركض فوقها حروفي وهي تهرب من برد مشاعري وتدرب عينيها على التقاط اللوعة " / 99. وقولها :" وأطير لأبحث من جديد عن لحظة أمان لامرأة مذعورة تبتل لبلوغ لمسة دفئ وظلال وتتشح بجليد اللحظات وتناشد رياحين الليل وزركشة السماء وتناغي صحو الأمنيات وظلال أهداب أقفلت أبوابها ونفت أحلامها ومارست توق الخروج عن خرائط الوقت " / 127 .

 

لغة مليئة بالاستعارات المقصودة.. فالمرأة تشغل حيزا كبيرا في المجموعة، وليست المرأة مجردة.. بل تلك المشتاقة والمحرومة لسبب تكشفه أحداث القصص وهو لا يعدو أن يكون فراقها عمن أحبت، أو زوال ظل الحبيب، وهذا الحبيب ممتد بين جمال المرأة الذي زال.. أو جمال اللقاء الذي مضى بين الحبيبين، أو زوال ما له علاقة بالحبيبين من مكان أو لحظة ذكرى.. والزوال هو الغالب على قصص الفواز، ولم تلق حبيبة من حبيباتها ما فاتها !

 

ومن أجمل صورها التي استعارت وبدلت ورمزت بها للحب قولها : " سألعب معك لعبة الاستفزاز وسأقول إني لا أحبك ... " / 63 .. و" أنا لا أحبك ... أنا أقدسك ... أنت أكثر من حبيبي .. " / 64 . والمعنى الغائب في النص أنني – ذات الحب القرمزي - لم ألعب اللعبة ذاتها مع كل مَنْ قابلت ، أنا اخترتها وأَدَمْتُ معها اللعبة. كلّ شيء كان مسموحًا في لعبنا، حتى الغش، ولو لصالح الطرف المقابل. هي تغافلني وتكشف ما استتر من ورقٍ عندي، وأنا أغافلها، وأكشف ورقها. كانت طريقةُ لعبنا مكشوفة ليس لأحد، سوانا. استطعنا أن نفهم اللعبة بسرعة. أشتاق لتلك اللحظة التي تطلب مني أن أسرق من أوراقها ورقة. هي تقول: إن كلّ أوراقي مُلْك لك . وتسألني ، كمن يعرف الجواب، ومَن يملك أوراقك؟، فأجيبها، كمن يعتقد -عبثاً- أنها لا تعرف الجواب: " طبعاً أنتِ ". وتستمر اللعبة من يحب من أكثر /67.

 

كذلك قولها عن الصياد : " وردتي الآن لا تصدق أحد ولم تنج هذه المرة من شباك الصياد .. ولم تتعلم دروس الحب .. " / 95 . والمعنى الغائب في الصياد هو أنه طاب لذات القلب الوردي عند الفواز ذاك التجلي الأول. سمكة صغيرة تلجأ إلى يد صائدها، ضارعة أن يسمح لها أن تعيش، لكنها نمت وترعرعت بسرعة، بحيث لا يتسع لها سوى البحر. وعندما جاء الطوفان حاول أن ينقذ نفسه، فلم يعد يرى سوى سمكة كبيرة، فلجأ إلى السفينة وكان الوحيد الذي نجا. لم أكن هو الصائد ولم تكن هي السمكة.

 

-5-

 

وسأحلل الآن أسطورة من أساطير الفواز التي اقتربت منها ولم تستدعها صراحة، ومنها ( راعي الغزالة) / 119، وهي أسطورة عربية قديمة فيها رمزية واستعارة تقرأ بين السطور.. وقصة الفواز ( لأنك قروي.. ) طويلة وغامضة ويمكن أن نستغني عن نصفها ! هذا إذا قرأناها بتطرف ، أعني قراءة لا تنتمي للمجموعة، أما إذا قرئت القصة مع دائرتها المكتملة وهي تتنظر راعي الغزالة القروي الحبيب فإنها ستصب في قصة الغزال في الأسطورة العربية القديمة كما يقدما محمد عجينة وهو أن الغزال رمز الجمال واللذة وهو رمز لحيوان مُقدَّس هو "الطوطم" وعرف قديماً في عبادات الوثنيين، وقد عاشت عبادته في صورة أخرى لم يَعُد فيها طوطماً، في تلك المرحلة التي تطوّرت فيها هذه العبادات الوثنية إلى شكلٍ جديد، يعني: "عبادة النجوم" في الفترة القريبة من ظهور الإسلام، وأصبح الغزال رمزاً لـ : "الشمس" يتعبدون لها من خلاله. ويتضح وجود صلة بين "الشمس" و"المرأة" و"الغزال" وهي صلة تفسّر لنا هذه الصِّفات التي تتراسل في الأدب العربي القديم. إذ لعدم صيده – عندهم – دلالة حب وتقدير، وكون صورة الغزال لا ترد في شعر الصيد، ثم لأجله أفردت صورة المرأة العاشقة، فنرى تشبيه المرأة بالغزال، وهو كثير جداً، في الشعر الجاهلي، ومنه عند امرئ القيس: "جيد كجيد الرئم" و"كغزلان رمل في محاريب أقيال"... ووجود الغزلان في المحاريب، كما قال امرؤ القيس، دليل على ارتباط الغزال بالدِّين الجاهلي. ويخلص نصرت عبد الرحمن، إلى أنَّ الغزال حيوان طوطمي، مقدس عند الجاهليين. ويعود إلى اللغة، إذ تقول اللغة: إنَّ من معاني الغزال الشمس، وكذلك رمزت اللغة للشمس بحيوان آخر هو: المهاة، وباكتمال العقد، يمكن جعل المرأة شبيهة بالشمس، ويبدو أنَّ الشعراء يشبهون المرأة بالشمس مباشرة، أو بما يرمِز إلى الشمس كالغزال والمهاة. كما يمكن أن تكون المرأة في الشعر الجاهلي رمزاً للشمس، وقد ذُكِرَ أنَّ العرب في الجاهلية قد صَوَّروا الشمس إنساناً، وهذا الإنسان يُمَثِّل حسناء عارية.

 

 

 

-6-

 

من الجمل المرفوضة –بتقديري عند المتلقي- مما لا تضيف للقارئ الضمني دالا للحكاية الأم، ومن أفق القراءة لديّ أجد جملة كررتها القاصة ولا تليق بناقد ضمني يبحث بين السطور أن يتجاهل رفضه لها، ذاك قولها : " أستغل غبائي الأنثوي " / 102؛ فالألق وإتقان الرقصات مع مربعات ركن الحب البعيدة والغرق والاستمتاع وقراءة الطرقات ولذة الجرح القادم ليست من الغباء وإن كان المقصود هو الغباء الجمالي للحب، فالتعبير مرفوض ! ألا كان النص البديل للغباء هو قولها –إن سمح لي أن أكتب نصا على نص من كلماتها وإبداعها- :

 

اسمحي لي حبيبتي أن أكشف بعض سِرِّنا في الحبِّ، كي يأخذ الغبي فرصته في عدم تكرار سؤاله عليّ، وليقوِّم نفسه في جَهْلِهِ للحب ويبدأ لـ..

 

حبيبتي، كل شيء يمكن أن يضيع في جواريري، بين ثيابي. ولي أن أُنبِّشَ جواريري باحثاً عن أيِّ شيء أذكره، أو لا أذكره؛ قميصي، وقلمي، وعطري.. ولي أن أغلق هذه الجوارير؛ لأن فيها نفاذاً إلى مكاتيب أهملتها: عَلّمْتِني ألاّ أفتّش عن شيء بزاوية غرفتي قبل أن أكون مرتاحاً مَعَكِ في الحب، فلن أبحث، وقد صار حبّك صمتاً، لا أستطيع كتابته في دفاتري؛ فلقد علَّمَني الحب نصف الحقيقة، فكم هو لئيم!

 

الحب يا حبيبتي حَبَّة صغيرة تفاجئني تحت قلبي، ولا تطاق هذه الحبّة فأتركها. فتتحوّل إلى كَوْمة. وأتيه بها. ثم أقتربُ فما زال في قلبي مساحة للحب، لكن دون عناق؛ فالعناق قد يُحوِّل الرَّمل إلى طين. ولا يلتقي خطَّانا يا حبيبتي؛ فهما متوازيان، إلاّ إذا ذاقا من الكأس نفسه. والأهم أنهما رغم توازيهما لكنهما يتركان مذاقاً خاصاً فيما ينغمسان فيه. وأهيم بقصتنا معاً ونحن .... نحن كلُّ ما ضاع من هذه القصة. نحن كلَّ ما لا يُفَتَّشُ عنه. ونحن ثابتان ...، وليعامل حبنا ذاك الغبيّ بأنه حبّ جاف، وإذا أراد أن يفضحنا، فليُغْلِقْ الأبواب خلفنا، فلن يغلقَ أي باب غيرَ نصف انغلاق " ظلت صامتة وهو يقرأ وجه عاصفته ويتلظى ببوح الحنين وكأنه يمسك بآخر قطرة ضوء من شمسها التي حثت خطاها لتغيب .. والان تغادر وتترك له مشاعره الملتهبة التي لا تطيق مجرد لمسها " / 142 .

 

دعيني أحسُّ يا حبيبتي.. لا تحطميني.. لا أريد أن أصحوَ.. لن تجمعي مني الشظايا.. رتّبيها كما تشائين!، واعشقيني يوماً، وحَطِّمي كلّ أسوارك، واكتمي ما علمتِ مِنْ أمْرِ حبّي، واحرصي عليّ؛ لأنّ الكلمات الأخيرة في الحب تعادل كُلَّ دموع فقدت حُلمها، لكن الكلمات الأولى في الحب لا يعدلها شيء. فإن اشترى أحدهم غبياً بجواب أقرب للكذب، وصَدَّقَهُ بفوضاه، فليعلم بأنه لا يفهم معنى الحبّ، ولا يفهم أنَّ اللحظات التي لا تنتمي للحب هي أقرب ما تكون للفناء، ولا يفهم أنَّ مطر الليل هو فَرَحٌ يطهرّ ملل النهار، مع أنَّ المطر لا ينتمي بصورة مباشرة للحب.. نحن " نصوغ من صمتنا لغة أخرى ونركض وراء مرايا المجهول " / 63 .

 

كانت لنا نكهة أخرى، حملتُ معها قميصي، وقلمي، وعطري إلى باب غرفتي. ودّعتُ أهلي، قالوا: حزين، تركتنا وانسحبت!، وددتُ أحبّ لا شيء، لكني لا أستطيع؛ لأن المكاتيب قد أتتني من جديد. فوزّعتها للذين أحبوا من بعدي . و لكنهم قبل وصولي قد غادروا. كلهم غادروا. ووقفتُ حائراً: إنّهم يذهبون. فصرختُ: هاتوا لي المرأة التي سكنت ثيابي. فذَلَّ الرِّفاقُ لذُليِّ، وتبرعوا لي بالدواء المسائي؛ فاشربيني حُبّاً، لتذوب كل خلافاتنا " قالت : لقد غطى الظلام وجه الشمس ووردتي مليا في البرية واستجدت الكهوف المنسية وفتحت بوابات الحديقة ليمر طيف ما ويستلقي تحت ظل شجرة من أشجار الذكريات وقبل أن يرحل يدمر ما بقي من الحديقة ويرتكب كل الجرائم في حق الأزهار ويرحل " / 93 - 94.

 

لقد علمتني الانتظار بزاوية غرفتي أتذكر رمْل قلبي، فأنقله حيثما حَصَلَتْ ثغرة، والآن لا رَمْلَ عندي. فلقد تركتِني أشربُ وحدي، أوَ تعرفين ؟ لقد ملَلْتُ انتظار ثلاثين عاماً، فلقد عشتُ مع عمري طفلاً، ولم تكوني طفلة، وعشتُ شاباً وكنتِ طفلة، وعشت رجلاً وكنتِ حبيبتي،… كلنا في وطنٍ واحد، ولا مسكن يجمعنا! لقد أخبرتني يوماً بأنّيَ في العشق غريب. لست الغريب، يا حبيبتي، الغريب أنَّنا و نحن حبيبين بلا مكان يضمنا نحيا في وطنٍ واحدٍ.

 

سأذهبُ آتيكِ بالحُبِّ، وأشربُ كلَّ ما تشتهين. لكني أريدُ قميصي القديم؛ فقد اضطُررتُ لأَسْتُرَ جُرْحي، إذْ أصبحتُ في وطني شيئاً غريباً.

 

-7-

 

كذلك كانت عنوانات القصص ذات إشارات سيميائية دالة. ويمكن حصرها كما حصتها بذكاء وحرفية الفواز على غلاف مجموعتها وعنونت للمزيج الجميل بعنوان ( بنكهتي ) . إلا أنني أجد عنوانات غير دالة، ولا تنتمي مضمونا لما يتبعها من حكاية، منها قصة ( انحسار الضوء ) /103؛ فمضمونها ملخص في قول القاصة : " تركض معه في حقول شاسعة من اللهفة والصفاء ويغسلها المطر " / 103.وقد تعجلت القاصة في تقديم نتيجة القصة التي تدل على اضطراب في تنظيم أحداث القصة وهذا قولها : " لقد وضعت في يديها أصفاد منحتها إياها وعود وفراشات زائفة حكت لها روايات وقصص الحب " / 105. فماذا بقي للقارئ الأبيض من تأويل وهو القارئ الضمني القادر على التأويل وممارسة فن القراءة. ولذة الخيانة والتفكير بممارسة لذة الخيانة لا يتناسب مع عنوان ( انحسار الضوء ) ! إضافة لذكرها العنوان في نهاية سطور القصة وهو قولها : " يتوقف قلبها لبرهة إنه انحسار للضوء قد يكلفها كثيرا !! " / 106، وقد تلت السطور تفسير القاصة لمعنى انحسار الضوء فالمعنى أنه انحسار إجباري لمشاعرها التي يجب أن تتراجع مع انحسار الضوء / 106.. وهو الحاضر الذي يعتقلها ويجعلها تصفد أذنيها / 106 .. فتعود تستيقظ – في الحاضر – على صوت بكاء صغارها تصفعها الذكريات .. صامتة .. وتقطع الخيط الواهي .. تضمد جراحاتها وتتكوم من جديد داخل قمقمها .. / 106 – 107 ؛ فنفهم أنها أرملة وتعيش على حلم جديد ولا تفكر بالخيانة وتتحمل من أجل صغارها ولكن إحساس القاصة بأن عنوان ( انحسار الضوء ) يحمل أكثر من تأويل ويبتعد عن مغزى القصة جعلها تفسره !

 

ومن قصص المجموعة التي تخرج عن إطار الحبيبين التائهين وراء سرابات من الحب اللذيذ، إذا افترضنا ضرورة التمركز المنطقي حول العقل في قانون ( دريدا التفكيكي )، عنوانات القصص : أسيرة القضبان / 15، وقفزات على جدار الصمت / 23، والشارع الأسود / 109 .

 

ولا يغيب الضوء عن لحظات القصص الزمانية اللاحقة منها أو السابقة، ومن أكثر الصور تجسيدا لدور (الضوء) في الحدث عند الفواز قصتها ( قطرة وطن) وهي قصة متميزة في المجموعة.. وعنوانها ناجح وأخاذ ويسحب من خيالك تأويلات لم تكن حاضرة، فانظر في قول الساردة : " استفاقت عيناها على قوافل الضوء القادم من بين ذرات زجاج النافذة التي سهرت بقربها ليلة البارحة وجدت نفسها أسيرة كرسيها الثير " / 133 .. والسبب هو أن حبيبها / والدها منحها قبلة ليلية ناعمة ثم رحل ليتركها غارقة في عبثها الليلي .. ترسم صورة له وهو راحل عنها .. / 133 . ويغيب الوطن ويحضر الوالد الحبيب وتكون : " قطرة واحدة من الوطن تطفئ أنهار شوقها لوالدها ولحنانه وتنعش في قلبها رؤى أخرى ولحظات مضيئة ترتشف منها أزاهير الحياة /135 . أما زمن الحكاية الذي ركزت عليه القاصة وهي تقول أنها الآن في " الثامنة عشرة من العمر وثمانية أعوام مضت دون والدها .. " / 136 ، فهو زمن حاضر ولا تأويل له. وهو زمن ينتمي للقاصة من فريب. ولا يمكن أن يكون لها بعد إضافي في تحديده.. إلا أن إطار الحدث العام يتمركز منطقيا حول الحب وتعدد أطرافه من حبيب زوج حاضر وحبيب زوج غائب كما الوطن والوالد. وتبقى الضحية التي تدور حولها الأحداث هي المرأة الضعيفة العاشقة التي فقدت حنانا كانت تحتاجه في لحظة قهر وتمرد على الذات. ونجحت ( قطرة وطن) عنوانا وحدثا ولصقا بالمضمون الكلي لـ : " قرمزي بلون قلبي " .

 

 

تعليقات