تدريب على التحليل.. إلى طلبة الماجستير (الدرس الأول في نقد القصة القصيرة): الحُلم مع الآخر بنية محكية في قصة "السّنّ" لسليمان الأزرعي - الأردن

تدريب على التحليل..

إلى طلبة الماجستير (الدرس الأول في نقد القصة القصيرة):

 

الحُلم مع الآخر بنية محكية في قصة "السّنّ" لسليمان الأزرعي - الأردن*


نصّ القصة :
سقطت
جميع أسناني! جميعها إلا واحد!
كان الحلم مرعبا!
قلت: ستنفعني هذه السن في عجزي وشيخوختي؟
حين انفض عني كل أبنائي. وتزوج ما تزوج من بنات،
بقيت إيمان..
لقد رفضت الزواج من أجلي، لم يكن ذلك ليسعدني.
حاولت معها ولم تفلح المحاولة، كانت قد اتخذت قرارها بألا تتركني.
فسرت عندها ذلك الحلم الذي أرعبني، وأدركت أنها السن الوحيد التي ظلت في فمي...
كانت جميع أسناني منخورة.
لقد هجرني كل أبنائي.
ظلت أسناني مصدر وجعي الدائم..
سقطت سنا تلو أخرى..
سقطت إلا واحدا فقط . ظل في فمي..
قلت سينفعني في شيخوختي وعجزي..
كانت إيمان قد اتخذت قرارها بالبقاء إلى جانبي!
وها سقطت جميع أسنانها.
ولم يعد في فمها غير سن واحد..
ولكنها منخورة !
***
مدخل إلى التحليل :
رسم تيار القصة :
الحلم ---------- السِّن ---------- الواقع
فإلام يرمز ( السن ) في القصة ؟
هل هو الابن ؟
أم رمز شيء مهم لا يعيش الأب الكبير إلا به ؟

فيعرض القاص الحدث بوجهة نظره الراوية إذ يقدم لنا معلومات كلية أو جزئية ، فالراوي قد يكون كلي العلم، أو محدوده، وقد يكون بصيغة الأنا ( السردي ) . وقد لا يكون في القصة راوٍ، وإنما يعتمد الحدث حينئذٍ على حوار الشخصيات والزمان والمكان وما ينتج عن ذلك من صراع يطور الحدث ويدفعه إلى الأمام.. أو يعتمد على الحديث الداخلي ..


تحليل القصة:

تقول يمنى العيد في (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي) بأن القصة القصيرة لها هيكل يبنيها.. وهو مادة الجسد النصية التي بحركتها ينبني النص، أي أن التحليل الذي يتناول هيكل البنية يكشف أسرار اللعبة الفنية؛ لأنه تحليل يتعامل مع التقنيات المستخدمة في إقامة النص.

ثم إن جماليات التشكل الإبداعي الخلاقة، تتمثل في ذلك الانبعاث للتعبير الجسدي للبناء النصي، الذي يمثل الإيقاع الخفي لتجربة سحرية تتحرك بصورة دائمة وبخصوصية تحمل وعيا يمتد أو يتقلص ليبعث الحياة في أرجاء النص... ولعل هذه الهندسة المتحركة تحتاج إلى استنتاج متجدد لقاعدة تأولية ودلالية. توضح الإطار المرجعي والشيفرة النصية لبنية الشعور العميق في العمل الأدبي، فيخرج الصدى الإنساني المعبر عن الموقف من الحياة والكون، وعليه فإن عملية الخلق والابتكار لا تتحقق إلا من خلال رؤية واضحة في العمل الفني، ولا تتحقق الرؤية إلا بأدوات وعناصر تشكيلية وفنية تستثمر كل طاقاتها المختلفة في بناء كل قطعة من العمل الفني... وهو ما سيحاول المؤلف تتبعه في نص سليمان الأزرعي.

فالقصة تقوم على مكونين يرتبطان بعلاقة عضوية، لا يتحقق وجود أحدهما إلا من خلال الآخر، وهذان المكونان هما العمل و الخطاب = الحكي؛ لأننا عرفنا القصة بأنها : " الأحداث التي تنطوي عليها الحكاية من دوافع وشخصيات و أزمنة و أمكنة ولغة ".. أما الخطاب = الحكي فهو : " الطريقة التي يتم بها سرد هذه الأحداث، والكيفية التي يستطيع بها القاص تبليغ رسالته إلى المتلقي بعناصرها الفنية والشكلية " .. وهذا ما نريد معرفته عند سليمان الأزرعي.

و ماذا ندرس في اللغة ؟

إن القصد من دراسة اللغة القصصية، هو تناول الظواهر اللغوية في النص القصصي، حيث تعد اللغة هي الوسيلة التي يعبر فيها الأدب عن نفسه، فهي بؤرة النشاط الإبداعي المتعمق الجذور في الظاهرة الكتابية والأكثر حضورا، كونها أداة التواصل للفعل الإنساني بكفاءة لغوية عالية لموقف وعوامل سياقية.

واللغة هي الرسالة النصية التي تنقل الفكر ومضامينه ورمزيته بالفعل الإنساني، بوحدة بنائية متكاملة لتؤدي غرضاً إخبارياً، و اللغة بوصفها أداة للتواصل بين المبدع والمتلقي تعد المصدر الأساسي في بناء العمل الفني. فلا تتحقق العلاقة بين الطرفين ( المبدع والمتلقي ) إلا بها، ويرى ( الطاهر أحمد مكي ) أن اللغة المستخدمة في القصة يجب أن تعكس إلى أقصى حد ممكن الجو النفسي لشخوصها .. فلغة القصة ليست مجرد كيان قائم له مادة خام يتم تحويلها إلى رموز وعناصر لتؤدي وظيفة إخبارية 0 فقط - ! بل هي طبيعة متحللة لعالم داخلي هو جزء من عالم محيط محمل بالإشعاعات الفكرية والعاطفية والشعورية، ويخضع لعلاقة عكسية متكاملة لفعل الاتصال والنص، وانطلاقا من المفهوم العام للغة فإنها تأخذ ثلاثة وظائف متكاملة لا يمكن فصل أحدهم عن الآخر، فمن وظيفة الفعل اللغوي إلى وظيفة الفعل النفسي إلى فعل الاتصال.

و بعد،

والبداية من الجو العام:

بدأت القصة بجملة افتتاحية صاعقة بقوله:

" سقطت جميع أسناني!. جميعها إلا واحدا"

ولم يمهلنا القاص لتخمين سبب سقوطها؛ إذ يدخل مباشرة في القصة حيث أنه حلم مرعب رآه بطل القصة، ثم يأخذ بتفسير ذلك الحلم وانعكاسه على أرض الواقع، والذي ظهر جليا حين انفض عنه كل أبنائه وتزوجوا / كأسنانه ! ما عدا ابنة واحدة له هي "إيمان"، والتي رفضت الزواج لأجل والدها، وقررت أن لا تتركه وحيدا، وبالتالي فقد سقطت كل أسنانه المنخورة عدا سن واحدة وهي كناية عن ابنته التي لازمته، مع مفارقة في القصة وهي أن ابنته أيضا فقدت جميع أسنانها، إلا سنا واحدة، بقيت في فمها وهي سن منخورة، أي كناية عن والدها.

·       الأسلوب:

جاءت القصة بثقافة دقيقة وإحساس مرهف عبر رموزها وانزياحاتها، وحوارها، وقراءتها للواقع دون وضع حدود لغوية عالية. فتنتمي القصة لثقافة معاصرة تمكن المتلقي من معرفة مكنوناتها، إذ لجأ القاص إلى تقنية الحلم فاستخدمها في قصته، حيث بدأ القصة بالحديث عن حلمه المرعب، ولكن حلمه هذا يستند إلى موروث شعبي متداول بين الناس، وهو الذي يربط عادة سقوط الأسنان في الحلم وحدوث مصيبة أو كارثة بحجم مصيبة الموت غالبا، ولكن القاص استخدم هذا الموروث؛ ليظهر تخلي أبنائه عنه حيث أظهر الحلم سقوط جميع أسنانه عدا سن واحدة فقال:

" فسرت عندها ذلك الحلم الذي أرعبني،

وأدركت أنها السن الوحيد التي ظلت في فمي...

كانت جميع أسناني منخورة،

لقد هجرني كل أبنائي. ...

كانت إيمان قد اتخذت قرارها بالبقاء إلى جانبي!"

 

·       الشخصية:

تدور حول شخصيتين رئيستين هما:

 الأب،  وابنته إيمان، مع ذكره العابر للفظة الأبناء، ومع هذا فلا يوجد فالشخصيات مسطحة، و استنتجن القارئ أن الأب قد بلغ سنا متقدمة، والابنة التي قد هرمت بجوار والدها المسن، وخلو فميهما من الأسنان سوى سن واحدة تمثلت بقرب كل منهما للآخر.

***

·       الزمان والمكان:

القصة زمانية؛ فهي تركز على حدث وتخلو من ذكر الأماكن وتركز على البطل.

 

·      العقدة:

لا تظهر العقدة في القصة ، فهي محبوكة على نسيج مباشر بسيط، وإن رأى القاص أن سقوط أسنانه إلا سن واحدة هي عقدة القصة على ما يبدو.

·       المغزى:

تظهر قيمة القصة من خلال المغزى والذي يتمثل في أن الثمن الذي حصل عليه الأب مقابل بقاء ابنته معه، يقابل تضحية عظيمة قدمتها ابنته التي ضحت بسعادتها وزواجها؛ لتشاطر في النهاية والدها الوحدة والانعزال، ويتجلى ذلك في قول القاص عن ابنته إيمان التي اتخذت قرارها بالبقاء إلى جانبه :

... ها سقطت جميع أسنانها.

ولم يعد في فمها غير سن واحد.. ولكنها منخورة!"

القصة هي البيئة الخصبة التي تتواءم بها المجالات المتنوعة بانسجام اجتماعي بطريقة منتظمة، فالقصة في لغتها هي ذلك النسق المترابط ذو الخصوصية الفلسفية الكاملة، التي تحمل في طياتها تعدد الخطاب المتداخل في النسيج المتكامل عبر آلية الحلم التي اختارها القاص، والتي تجعل من النص نصا متكاملا و متجانسا في بنيانه يصعب تفككه، انظر إلى قوله يصف ابنته " إيمان " :

فسرت عندها ذلك الحلم الذي أرعبني،

وأدركت أنها السن الوحيد التي ظلت في فمي...

وهذا المغزى ينطبق على الكثير في حياتنا فالنجاح له ثمن، والارتقاء للأعلى له ثمن، وربما يوجد كثير من الناجحين بيننا مرهون بما حظوا به، ولكنهم حقيقة يقفون على أشلاء من ساعدهم للوصول سواء أكانوا من الأقارب أم الأصحاب، الذين تواروا في الظل، وربما ذاقوا المرار ليطعموا غيرهم الشهد، هذا من جهة، و من جهة مباشرة بسيطة فالأسنان هم أبناؤه الذين فارقوه و هو محتاج لهم في كبره، و لم يبق له سوى ابنته إيمان التي لازمته، يقول:

لقد هجرني كل أبنائي.

ظلت أسناني مصدر وجعي الدائم..

سقطت سنا تلو أخرى..

سقطت إلا واحدا فقط . ظل في فمي..

قلت سينفعني في شيخوختي وعجزي..


انتهى



*سليمان الأزرعي: أكاديمي وناقد وقاص من الأردن، من مواليد الحصن عام1949م، حاصل على الدكتوراه في الآداب العربية تخصص النقد الحديث، عمل في التعليم منذ عام 1974 ولغاية 1985م، ويعمل حاليا مدير مديرية ثقافة إربد – وزارة الثقافة، وهو محاضر غير متفرغ للنقد الأدبي في جامعتي: آل البيت وجرش، ومن أهم مؤلفاته في النقد:

 الأعمال الكاملة – لتيسير سبول، 1980م، و الشاعر القتيل – لتيسير سبول، 1983م، ودراسات في الشعر الأردني، 1994م، ودراسات في القصة والرواية الأردنية، ومن الأعمال القصصية: البابور، وزارة الثقافة، 1993م، و الذي قال أخ أولا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت – لبنان،1997، وبئر الخزين، دار الكندي، 2000م، والقبيلة، دار الكندي، 2000م، والقصة من مجموعته  فالانتاين، دار الكندي – إربد، 2003م، ص 28-29.



تعليقات