من كتابي:( العنونة في الشعر) العنوان المراوغ

من كتابي:

العَنونة في الشّعر

"العنوان المراوغ"

زاوية "إضاءات أكاديميّة"، من مجلة أحوال المعرفة

                       كثيرة هي الحالات التي تقرأ فيها العنوان، ويأخذك – بمراوغته – إلى حيث لم تقرأ فيه من معنى مباشر، خصوصًا إذا تعلق الأمر بقضايا كبرى. إنه العنوان المراوغ الذي يقصد فيه الشاعر إلى المراوغة، وتجنب المباشرة، كما يقصد فيه الشاعر إلى تعدد المعنى، وتبدل الأماكن، فيمكن أن يقرأ من اليمين إلى اليسار كما يمكن أن تحل كلمة في جملته مكان أخرى. وقد تكون طريقة كتابته من سمات غرابته وهذا نادرًا.

 

ومن العناوين المراوغة عنوان " قلب .. يحن .. إلى .. وطن .. " وكتب مع نقاط فاصلة، ويمكن أن نقرأه يحن قلب إلى وطن. فعن أي وطن كان حديث الشاعرة (شريفة أحمد الزهراني) في ديوانها (الأماني الذابلة). ولعل الشاعرة تدرك أنها تجذب القارئ نحو اكتشاف لماذا تفتقد الوطن ! وفعلا تكتشف أن الوطن الذي تفتقده هو أمها، فتقول:

 

أبكي لوحدي . . لا أنيس..

 

لا جليس . . لا وطن . .!

 

وأصارع الآهات والذكرى . .

 

أحن إلى

 

السكن . . !

 

أماه . . أماه

 

يا ويحي أبيت على

 

الشجن . . .

 

وأكثر عناوين الشاعر(حامد أبو طلعة) في ديوانه(قلب من زجاج) هي عناوين مراوغة، فنقرأ منها (إن بعض الحب إثم)، و(شماعة السهو)، و(مدارات عسى)، و(آية ملكه)، و(صواع الكيد)، و(النفس الأمارة بالشوق)، و(صاحبة السمو الأدبي) وغيرها. وسنقف عند العنوان الأخير، لنقرا في المطلع:

 

ليل النوى وحسيس آهِ العاشقِ

 

حدس الكفيف وهمس رِجْلِ السارقِ

 

وتلك الحالة التي يعيشها الشاعر، ويصفها وصفًا دقيقًا وهو يستعير من النوى ليله، ومن العاشق حسيسه، ومن الكفيف حدسه، ومن السارق همس رجله، وغيرها من تلك الحالات التي لا يعرفها إلا من عاشها، وهي قريبة جدًا من صاحبها، ولا يستغني عنها، فتترى تلك الحالات في الأبيات الخمسة الأول لتقدم لنا في البيت السادس معطوفًا يرجعك للعنوان، فيقول:

 

و سموّها الأدبيُّ يقرأ قصةً

 

أجزاؤها فأسٌ يحطّم عاتقي

 

أي من تلك الحالات التي يحسّها صاحبها حالة قراءة سموّها لقصة الشاعر، والقصة ليست قصة مكتوبة، لأنه يقول عن أحداثها : " كالسيف تفلق بسمتي " وهذا السيف سيخر به من فوق الطموح الذي وصله ! ويصير لصاحبة السمو الأدبي أثر كبير على حياة الشاعر؛ فهي ليست امرأة عادية، تقرأ، وتعجب، وتحلل، لكنها تحمل ثلاثة ألقاب " صاحبة" ، و" السمو"، و" الأدبي"، فلا يخفى ما لكلمة (صاحبة) من بعد كونها قريبة جدًا من الشاعر وهما يشكلان معًا صحبة، والسمو من الرفعة وهي الكلمة التي أوحت لنا بتقابل لقب (صاحبة السمو الأدبي) مع لقب (صاحبة السمو الملكي) وبالتقابل تكون صفة الأدبي بمقابل صفة الملكي، ويكون الأدب هو مملكة الشاعر وممكلة كل أديب. ومن هنا يقول الشاعر عن مملكته:

 

لأفيق مملكتي الشقية أصبحتْ

 

كخريطةٍ صمّاءَ تشبه خافقي

 

فتحولت مملكته لخريطة صماء؛ لأن صاحبة السمو قرأت الأجزاء التي حطمت عاتقه من قصته، وطمست حدود خلافته في الأرض، وفقد كلّ وثائقه، وبعد أن انهزمت مملكته، وضاعت خلافته، جاء إلى (صاحبة السمو الأدبي) يحمل ما ظل معه من تلك الهزيمة من الخافق الذي ورثه عن خافق، والخافق يجمع بين العلم والمكان الذي لا أنس فيه. ولعل العنوان بمواربته لنا سيثير سبب هزيمته، وذكره الخلافة وربطه ذلك مع (صاحبة السمو) وهل في هروبه نحو الأدب حالة قوة، أم هي حالة انصياع لأوامرها، وهكذا من أسئلة لا تنتهي، وقد حاولنا إدراك إجابتها خلال ربط العنوان بتحليل فكرة النص.

 

تعليقات