أثر السرد في تعزيز الانتماء - عماد الخطيب

أثر السّرد في تَعزيز الانتماء

في قصة (لن يصدقه أحد) لمحمود ريماوي – الأردن*



نص القصة
:

بين أكثر الأفكار غرابة التي استولت على الشاعر، فكرة أنه مقتول. وكان أمر أن يكون حيا ومقتولا معا مبعثا لسخريته التي لا حد لها، والتي تغذت من جذر آخر هو أن أحدا سواه، حتى أقربهم منه وإليه، لم ينتبه للأمر أبدا، وساعد على ذلك تواطؤ الشاعر معهم في التمويه والتعمية، فمن ينقب في أشعاره لن يعثر على تصاوير لجثث أو قتلى أو دم أو احتراق، يل إنه واجد انشغالات بالحب والجماليات و"السمو الإنساني"، علاوة على أنه لم يفاتح أحدا بالقصة.

ففي السادسة قبل ثلاثين من السنين لم يقصد ذات صباح صفه الأول في المدرسة، بل ركن إلى خيمة للغجر قرب الذي يشق مدينة أريحا. وفيما كان يتسع كالمأخوذ إلى قرع دفوفهم واصطكاك أدواتهم المعدنية – ليست جميعها حادة -، وإلى أهازيجهم وشتائمهم على ضوء النار كانوا يشعلونها في النهار لا في الليل... فقد عمد أحدهم فجأة وبحركة تنم عن الملاطفة إلى حمله بملابسه،ثم وضعه على مرأى من الجميع في الموقد الملتهب، لم يكن موقدا عظيم الشأن ولكنه يتسع لجسده الصغير، ولدهشته فقد اكتشف أن الموقد أصغر بكثير من نار جهنم، لذلك لم يخف منه خوفا شديدا.
في صبيحة اليوم التالي كان الغجر قد رحلوا فجأة ولم يخلفوا وراءهم أي أثر، بما في ذلك الموقد الذي سوي بالتراب، وبالطبع فإن معجزة إلهية قد حدثت، إذ بقي حيا بعد أن أتت النيران عليه والتهمته.

لم يفاتح الشاعر أحدا بالأمر، رغم أن بقايا الحروق على أطرافه ما زالت شاهدا على ما حدث، لم يفاتح أحدا، فماذا يجدي ذلك... ماذا يجدي؟ لن يصدقه أحد. وإذا صدقه واحد من ألف فيلسوف يستغل ذلك كيما يشن – دعنا نضحك... يقول الشاعر في سره – حربا دعائية مسموعة ضد الغجر ويا لها من فروسية.

منذ ذلك الحين، احتفظ الشاعر بسره وظل حيا ومقتولا معا، ولا يروقه أن يوصف بوصف لعين مثل جثة حية، قد يرتضي مثلا بنعت من قبيل أنه "ميت من الداخل حي من الخارج". وفي سائر الأحوال، فإنه وبخلاف الأحياء غير المقتولين، لم ينغمس أبا بكليته في أي شيء، ولم يرغب ولم يكن في وسعه أن ينجز أي شيء على نحو كامل وبصورة تامة، إذ كان منهمكا على الدوام في المراوحة والموازنة، بين الانجذاب للطفل المقتول والانحناء عليه، وبين الاندفاع الطبيعي في أطوار حياة المخلوقات.
أما لماذا حدث الذي حدث، فإن الشاعر يرده ببساطة إلى ضرب من سوء الفهم وحدة الطبع عند الغجر، وإلى سورة من سوء الحظ عنده هو، إذ ساورت بعضهم الشكوك أن الشاعر الصغير إنما يعبث ويلهو، فيما يذكر الشاعر أن الأمر لم يكن كذلك أبدا، فما حدث هو أن صبرهم قد نفد قبل الأوان، وأنهم لم يعطوه فرصة.

..................................



تحليل القصة :
تقديم موجز عن السرد:


لقد بات القارئ لا يتعرف في مطلع القصة عالما مألوفا . إنه يدخل على العكس في عالم يبعث على الحيرة ، تجردت فيه الأشياء والكائنات و الأحداث من العلاقات المألوفة، دون أن تتخذ مع هذا مظهرا ضبابيا..

إن ردود الفعل الأولي للشخصيات في مثل تلك القصص - و مثل ذاك السرد فيها - تثير الدهشة لأنها لا تجري حساباتها ولا تفكر وفق القوانين الدارجة، بل هي متوترة منذ البداية بفكرة ثابتة أو موقف مسبق يمنعان تحديد موضعها وفهمها دون الدخول في دوامتها .


و في السرد علينا أن ننتقل دفعة واحدة إلي المغامرة، من اللامبالاة إلي التوتر، مع إحساسنا بتلك اللسعة الغريبة التي تسبق اليقظة من نوم مضطرب..
و في السرد عناصر أو مكونات قصصية تكاد تكون واحدة، إذ لابد من توافر المكان والزمان والصراع والشخصيات والصور والحوار، وبالتالي وجود تفسير ظاهر أو مضمر لقصدية اختيار الموضوع حتي لو كانت نسب هذه المكونات متفاوتة أو مجزأة من أجل الوصول إلي المعالم الرئيسة لفهم المغزى المستور وغيره مما يبحث عنه القارئ / الناقد..

***

 

مع التحليل:

و لعله تراودك رغبة في إزاحة العنوان = العبارة :

" لن يصدقه أحد "

قليلا عن المعنى الذي استقر لها في القصة لتدل على كل خطابٍ يحمل جهداً تخييليا نحو الكلام المحكي سرديًا و المتخيل بلاغيًا في قصة محمود ريماوي، أي ذلك الخطاب الذي فيه "صنعة" قصدية للتأثير والإقناع، انظر في قوله في المطلع :

بين أكثر الأفكار غرابة التي استولت على الشاعر، فكرة أنه مقتول. وكان أمر أن يكون حيا ومقتولا معا مبعثا لسخريته التي لا حد لها، والتي تغذت من جذر آخر هو أن أحدا سواه، حتى أقربهم منه وإليه، لم ينتبه للأمر أبدا، وساعد على ذلك تواطؤ الشاعر معهم في التمويه والتعمية، فمن ينقب في أشعاره لن يعثر
إنه الخطاب = السرد الذي يوجد بين البرهنة والاعتباط. ولعل القارئ يلتقي لأول مرة بكلمة (الشاعر ) ، وهي تعني الإبداع – في أحسن حالاتها - ذي المكونات الثقافية والزمانية والمكانية.. فتأتي الحالة الزمانية و المكانية فور سؤالك عنها :
ففي السادسة قبل ثلاثين من السنين، ثم خيمة الغجر ، ثم مدينة أريحا.
انظر إلى المفارقات التي قد تثير المتتبع لحركة القصة إذا ما قرأت جمله السردية كاملة دون تفريق :


ففي السادسة قبل ثلاثين من السنين لم يقصد ذات صباح صفه الأول في المدرسة، بل ركن إلى خيمة للغجر قرب الذي يشق مدينة أريحا. وفيما كان يتسع كالمأخوذ إلى قرع دفوفهم واصطكاك أدواتهم المعدنية – ليست جميعها حادة..
و قد رافقها تجديد في البلاغة وتشميلها العودة إلى الخطابية ، في قوله :


فقد عمد أحدهم فجأة وبحركة تنم عن الملاطفة إلى حمله بملابسه،ثم وضعه على مرأى من الجميع في الموقد الملتهب، لم يكن موقدا عظيم الشأن ولكنه يتسع لجسده الصغير، ولدهشته فقد اكتشف أن الموقد أصغر بكثير من نار جهنم، لذلك لم يخف منه خوفا شديدا.


لتكون عنواناً للبلاغة العامة، في قوله :


فقد اكتشف أن الموقد أصغر بكثير من نار جهنم
فالقاص هو صانع حبكات وحكايات وليس صانع كلمات وجمل فحسب، وهذا ما نشهد له به في قوله السابق.


إن الاستخدام البين لأسلوب ما وراء الرواية – في السرد - مشتق من النقاشات الحديثة عن الوعي والواقع ، إذ يستخدم القاص عددا من التسميات المعروفة لوصف ما وراء الرواية المعاصرة منها :


الذات الواعية، في قوله :


في صبيحة اليوم التالي كان الغجر قد رحلوا فجأة ولم يخلفوا وراءهم أي أثر
و انعكاس الأفكار ، في قوله :


فإن معجزة إلهية قد حدثت، إذ بقي حيا بعد أن أتت النيران عليه والتهمته
إشارة إلى قصة النبي الكريم إبراهيم الخليل – عليه السلام - .. و إبراهيم الخليل أبو الأنبياء و إليه يعود البشر الذين قد يتصارعون على باطل. و التزوير في التاريخ و الحقائق حاصل من أجل إثبات ما لا إثبات له !


والمشاعر الذاتية ، في قوله :


لم يفاتح الشاعر أحدا بالأمر و انعكاسية الذات ، في قوله :


رغم أن بقايا الحروق على أطرافه ما زالت شاهدا على ما حدث
والانطوائية ، في قوله :


ماذا يجدي؟ لن يصدقه أحد.


والنرجسية في قوله :


احتفظ الشاعر بسره .. ..


لم ينغمس أبدا بكليته في أي شيء، والتمثيلية الذاتية، في قوله :


أما لماذا حدث الذي حدث، فإن الشاعر يرده ببساطة إلى ضرب من سوء الفهم وحدة الطبع عند الغجر، وإلى سورة من سوء الحظ عنده هو، إذ ساورت بعضهم الشكوك أن الشاعر الصغير إنما يعبث ويلهو، فيما يذكر الشاعر أن الأمر لم يكن كذلك أبدا، فما حدث هو أن صبرهم قد نفد قبل الأوان، وأنهم لم يعطوه فرصة...
غير أن الأمر ليس بالقوة نفسها في الشأن البلاغي، فالقاص لا يُحاجج بمعنى الكلمة، حتى وإن كانت شخصياته تحاجج؛ فالحجاج عنده يساهم في حدود تنمية الحبكة، انظر لمشهده و هو في النار :


وفيما كان يتسع كالمأخوذ إلى قرع دفوفهم واصطكاك أدواتهم المعدنية – ليست جميعها حادة -، وإلى أهازيجهم وشتائمهم على ضوء النار كانوا يشعلونها في النهار لا في الليل... فقد عمد أحدهم فجأة وبحركة تنم عن الملاطفة إلى حمله بملابسه، ثم وضعه على مرأى من الجميع في الموقد الملتهب، لم يكن موقدا عظيم الشأن ولكنه يتسع لجسده الصغير..


والقاص قد ضمن في خطابه عنصراً سردياً – فيه من البلاغة المتخيلة الشيء الكثير المقصود لذاته.. كما أن بناء بلاغة كلية يتطلب الخروج من المقابلة بين الوجود واللا وجود.. و إنه إصرار على أنه "لا وجود يحتمل الوجود"، و قد تكون في بلاغة القصة التخييلية، فيمكن تحقيق وحدة البلاغة التخييلية مع الواقع الذي قد تعتمده القصة القصيرة باعتماد التفاعل القائم على الإشكال والمساءلة، و نقول ذلك من قول القاص :


ولا يروقه أن يوصف بوصف لعين مثل جثة حية فالبلاغة في القصة تشد الانتباه من خلال خرق المعتاد.. و البلاغة قد تطبع الذكرى في الذهن، كما أنها تلائمُ بين الأفكار والمستمَع، أي تسهل المقابلة، أما دورها الداخلي في القصة فيتجلى في دخولها، هي نفسها، في صلب الحدث.. وبذلك تكون الصورة البلاغية أقوى من الحجة التي قد يحاول القاص تكثيفها.


و أخيرًا فإن على الناقد تجاوز المعنى الوضعي المعبر عنه إلى المعنى المبني في النفس :
فمن هم الغجر ؟


و من يمثل الشاعر؟


و من أصحابه ؟


و ماذا تمثل أريحا ؟


و إلام يرمز الطفل ؟


و ما معنى " حيا و مقتولا " ؟


سنجيب برسم تيار سرد القصة كما يأتي :


الشاعر الآن كبير و هو ميت من الداخل و " لن يصدقه احد " فلا دليل على ما سيقول ! ... و هو في مدينة أريحا ... و في داخل الشاعر طفل و ما زار حيا في ذاكرته ... و الطفل يحب الغجر و لكنهم رحلو ... و رحلت نارهم التي التهمت الطفل و صارت ترابا بعدهم ... ثم الشاعر عاد طفلا و مات في نار الغجر و آثار الحروق بادية عليه ... النار التهمت الطفل ثم هو ما زال حيا، و لا أثر للنار على الطفل و لا أثر للنار على مكانها، و لا حروق و لا كأنها النار موجوة ... الغجر نفد صبرهم على الطفل رغم إبداعهم في عملهم، و لا أثر للغجر و لا أثر لإبداعهم... في داخل الطفل ذكريات عن الغجر، و لا أثر للذكريات .. لم يذهب الطفل إلى المدرسة بل إلى خيمة الغجر ... و نعود إلى ان الشاعر الآن كبير و هو ميت من الداخل و " لن يصدقه أحد " فلا دليل على ما سيقول ... و هكذا و هكذا ...


و النتيجة العامة التي أفهمها من هذا السرد :


هل الحروق لا تكفي لإثبات وجود الغجر و النار و رمي الطفل بالنار ؟


إنهم لا يريدون إثباتا على أن الوطن وطننا؛ لأنهم لن يصدقوا أحدا و لن يصدق أحد ما نريد إثباته ! فالقاص / الشاعر.. حيران و أريحا ما زالت تنتظر في فلسطين من يرسم لها الحقيقة !


انتهى



* القصة من مجموعته (القطار)، المؤسسة العربي للدراسات و النشر، بيروت – لبنان، ط(1)، 1996م، ص 23 – 25، ومشار إليها بأنها من بين القصص المكتوبة بين عامي 1992 – 1995م.

محمود ريماوي: قاص عربي معروف، من الأردن، يكتب من عام 1972م، و له مجموعات قصصية هي : ( العري في صحراء ليلية – 1972 )، و( الجرح الشمالي – 1980 )، و ( كوكب تفاح و أملاح – 1987)، و ( ضرب بطيء على طبل صغير – 1990) ، و ( غرباء – 1992 )، وله كتاب في النصوص بعنوان ( إخوة وحيدون – 1995 ). كما نشر العديد من أعماله متفرقة بين أحضان المجلات و الصحف، و قد اهتم النقاد بأعماله لما تمثله من إشراقة و ذكاء باقتناص الموهبة للمشهد الحي و تحويل مشاهداته إلى بساط فني أخاذ.. و هو عضو رابطة الكتاب الأردنيين.

تعليقات