عماد الخطيب يكتب عن الفَرْقُ بَيْنَ التّدْقِيق والتَّحْرِير.. "كلمة موجّهة إلى أساتذة الجامعات المنظّرين غير الابتكاريّين، قبل غيرهم من المهتمّين"



الفَرْقُ بَيْنَ التّدْقِيق والتَّحْرِير

"كلمة موجّهة إلى أساتذة الجامعات المنظّرين غير الابتكاريّين، قبل غيرهم من المهتمّين"



يسألني أستاذي في الجامعة الّذي يُدرّس منذ عشرين عامًا (ما معنى كلمة "مُحرّر")!  فاضطرني إلى كتابة الأسطر التّالية:

يقصد "التّدقيق، والتّحرير" كلاهما إلى تصويب الأخطاء التي قد تغيّر المَعنى؛ إمّا لنقص في عناصر الجملة، مثل قولك: "ظننتُ الامتحان وأنا أحلّه"، والصّواب: "ظننتُ الامتحان سهلا، وأنا أحلّه"، أو لخلل في التّشكيل، مثل قولك: "إنّما يخشى الله من عباده العلماءِ"، والصّواب: "إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ".. وهكذا.

وبعد، فإنّ الحاجة إلى التّدقيق أو التّحرير لا يمكن إنكارها، أو الاستهتار بها..

أمّا أصحاب اللّغات الميّتة، وما أكثرها! فلا يعنيهم الكلام، وإنّ لغتنا العربيّة ليست منها، وسأتجاوز التّعريف بلغتنا التي تاريخها (المكانيّ، والزّمانيّ) يفوق الخيال! وهي تمتلك عشرات الملايين من المفردات، في حين لا يتجاوز عدد مفردات أيّ لغات الدّنيا النّصف مليون! ولها ميزة (تعدّد معنى المُفردة الواحدة) من بين عشرات من الميّزات الّتي لا تتميّز بها غيرها، ومن هنا صَعُبَ على (علماء المعرفة الرّقميّة) ابتكار (الحاسوب المحرّر)، في ابتكروا – إلى حدّ ما – (الحاسوب المُدقّق).

ومن ينظر إلى (موت اللّغة العربيّة) في (عصر التّحوّل الرّقميّ) واهم؛ لأنه نظر إلى واقع (زمن الكتابة الرّقميّة) في مدوّنات أو منصّات (صانعي المحتوى العربيّ الرّقميين)، الّذين لا يتقنون من صناعته سوى الرّقص على الوتر الحسّاس! فليست اللغة عبئا عليهم، بل هم العبء على لغتهم! لأنّهم جهلة بجمالها! ويزيد التّدقيق، أو التّحرير (أحدهما أو كلاهما) جمال النّصّ جمالا!

ومعنى (التّدقيق) لغة "الضّبط"، واصطلاحًا هو "اتباع قواعد علميّة في تصويب أخطاء النّصّ المكتوب"، ومعنى (التّحرير) لغة، هو "الإنشاء"، واصطلاحًا هو: "فنّ استثمار المعرفة إعادة كتابة المكتوب، أو نقل أفكار الذّهن مكتوبة على الورق"، ويقوم المُحرّر بمهام المُدقّق، والعكس غير صحيح.

والمحرّر هو "الشّخص المعنيّ بعمليّة إنشاء النّصّ"، والمدّقق هو" الشّخص المعنيّ بعمليّة ضبط النّصّ"، ويمكن أن يقوم مقامه (الحاسوب المدقّق).

وللمدقّق مهمّة واحدة فقط، هي "تصويب الأخطاء" على اختلاف مستوياتها، فالتّدقيق (علم)، أما المحرّر، فله مهمّتان: صغرى، وهي "تحسين النّصوص"، وكبرى، وهي "تحويل المَحكيّ، أو الذّهنيّ المُفكّر به، إلى نصوصٍ مكتوبة، وبلغة سهلة التّناول"، ومن هنا فالتّحرير يجمع بين (الفنّ)، و(العلم).

ويشترط في كلا المدقّق، والمحرّر امتلاك سمة (العِلم بقواعد التّدقيق والتّحرير)، وتتّسع دائرة شروط (المحرّر) إلى امتلاكه سمات (سعة الثّقافة، والخِبرة، والقُدرة على التّنبّؤ، وإتقان مهارات كتابيّة منها "العنونة، والتّصنيف، والتّلخيص، والتّطويل، والإيجاز، والدّمج" وإتقان مهارات أخرى في فنّ القراءة، ومن أهمها "الاستنتاج")، ويشتركان معًا في سمات هي "السّرعة، والبدهيّة، والتّركيز، والتّنظيم"، ولا بدّ لمخرجهما أن يتّسم بـ"الجودة، والإتقان".

ويجب على (المحرّر) كتابة (تقريره)؛ كي يتبيّن لصاحب النّصّ ما صنعه؛ وفاءً للعقد بينهما، ويكتفي (المدقّق) في تبيان ما دقّقه لصاحب النّصّ، بعلامات.

ومستويات عمل (المدقّق) هي: النّحويّة، واللّغويّة، والصّرفيّة، والإملائيّة، والتّرقيميّة، وكلّها (علوم) تحتاج منه إلى (فهم قواعدها، والتّدرّب عليها، وقياس درجة إتقانه لها)، ومستويات عمل (المحرّر) هي: النّسقيّة، والتّعبيريّة، والمنهجيّة، والأسلوبيّة، والتّركيبيّة، والإبداعيّة.

ومن عمل المدقّق تصويب (الخلل في العلامة الإعرابيّة) في قولك "يُطعم أخي عصفوران"، إلى: "يُطعم أخي عصفورين"، ومن عمل المحرر تصويب قولك: "صلّي على النّبيّ"، إلى: "صلِّ على النّبيّ".. وهكذا.

ومن أهم ما يتميز به عمل (المحرّر) اختيار الكلمة، وترتيبها في مكانها، وحذف المكرّر منها، واستثمارها في وصل العبارات، أو اقتباس ما يلزمه من عبارات، أو تغيير مواقع الفقرات، أو تغيير نمط العنوان، وإعادة تحريره، أو إعادة تحرير الفكرة المتكرّرة، إما بتلخيصها، أو إسهابها، واستثمار مهارته الإبداعيّة في تحرير الشّعر والنّثر الإبداعيّين.

ويأخذ (التّدقيق) اسمه المركّب من (النّصّ المدقّق) فنقول: (التّدقيق الصّحفيّ)، ويُسمّى صاحبه (المدقّق الصّحفيّ)، وقد تتّسع سماته إلى سمات لها علاقة بـ (الكتابة الصّحفيّة)، من حيث عنونة الخبر الصّحفيّ، وبناء جملته، فلا خطأ في قولك: "كان قد زار وزير الثّقافة"؛ إذا كتبها (صحفيّ)، مع أنّ الصّواب العلميّ للجملة: "زار وزير الثّقافة"، وعلى (المدقّق) إدراك ذلك، وغيره، حسب نمط ما يدقّقه من مكتوبات.

ويأخذ (التّحرير) اسمه المركّب من (النّصّ المحرّر) أو (المراد تحريره)، فنقول: (التّحرير الصّحفيّ)، ويسمّى صاحبه (المحرّر الصّحفيّ)، وعليه معرفة أساليب (الكتابة الصّحفيّة) عند (تحرير الخبر)، أنّه يُكتب وفق نظريّات منها (نظريّة الهَرَم المَقلوب)، التي تبدأ بكتابة المعلومات الأكثر قيمة، فالأقلّ، فالأقلّ.. وهكذا.

وبعد، فالكتابة السّليمة جزء من الهُوية، في زمنٍ غاب فيه الاعتزاز بالهُوية!

وقد كان فيما مضى من زمن جميل "شرط التّوظيف" إتقان الكتابة! فلمّا غاب هذا الشّرط، غابت أهم أدوات التّواصل بين النّاس، بعد اللّسان.

وأخيرًا..

فالفروقات واضحة بين عمل التّدقيق، والتّحرير، ولتعليل (الضّعف العام) في المدوّنات الرّقميّة العربيّة، ومنصّاتها، أقول: إن أصحابها يكتبون دون هدف لما يكتبونه! فعليهم التّوقّف؛ وكتابة تقريرهم الّذي سيتضمّن (الرّؤية، والرّسالة، والأهداف)، وإلا سنبقى نكتب إلى هباء!

 

تعليقات